لا أعرف اي شيطان حل عليّ ليذكرني بهذا الموضوع وقد مر عليه 63 عاما تقريبا . ولا أعرف لماذا ألح على خاطري عيد ميلاد الراحل جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان . هل عيد ميلاده يتصادف مع هذه الأيام ؟ ام انها الذكريات التي بدأت تطفو على سطح حاضري تريد ان تخرج الى النور .
في عام 1950 كنت طالبا بالشهادة الأبتدائية بمدرسة " أوده باشا الأبتدائية في الترعة البولاقية " وكنت أيضا كشافا ضمن فريق الكشافة بالمدرسة . مع تدريبات الكشافة بدأ الأستعداد لأستعراض سيقام بمناسبة عيد ميلاد جلالته . أناشيد نتدرب عليها . استعراضات كشافية تشبه الأستعراضات العسكرية . نقضي الساعات في السير على صوت الموسيقى العسكرية للتنتظم خطواتنا مع التشكيلات الكشافية الأخرى في جميع مدارس القاهرة الأبتدائية والثانوية . لأن جلالته كان كشاف مصر الأول .
من يتذكر زي الكشافة الذي كنا نرتديه .. " شورت كاكي وقميص نصف كم كاكي أيضا ومنديل أصفر مع أخضر كبير يطبق بطريقة معينة ويضم طرفاه بقطعة من الجلد " . وأهم شيء كان " الطربوش " والذي فرحت جدا عندما وافق والدي على شرائه لي وبثمن غال نسبيا في تلك الأيام
كنت أتمنى لو كان عندي صورة احتفظ بها لنفسي بذلك الزي ، و " الطربوش " فوق رأسي .
في اليوم المحدد ، وبعد تدريبات شاقة استمرت عدة أشهر ، توجهت فرق الكشافة في ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم الى ميدان عابدين ، وفي ساحة كبيرة هائلة أمام قصر عابدين الملكي بالقاهرة تجمع آلاف الطلبة من أبناء " الفلاحين " في نظر الملك والقصر ننشد الأناشيد الحماسية ، ونستعرض الأستعراضات العسكرية على دقات طبول " المرشات العسكرية " ، كلنا غبطة وسعادة . لأننا سنحظى برؤيا مليكنا المفدى ملك مصر والسودان ، وسنستمع الى صوته الملكي الكريم وهو يشكرنا على كل هذا الجهد الذي بذلناه من أجله لأنه كشاف مصر الأول . وقد يكون قد جال بخاطري توزيع الحلوى علينا . لأن المناسبة هي مناسبة عيد ميلاده . فلا بد أن يكون كريما ويغدق علينا بالحلوى ليشعرنا بأننا فعلا نستحق الترضية بعد كل ذلك الجهد الذي بذل .
جاءت اللحظة المرتقبة . إشتد صوت الموسيقى وعلا صوتنا يشدو ألأناشيد المعدة لهذه المناسبة . حنجرتنا تنشد وعيوننا على شرفة القصر التي سيطل منها علينا حتى تمتليء بنور طلعته البهية .
خرج ياوره الخاص على ما أتذكر أولا ، ثم أطل علينا جلالته بقامته الطويلة الضخمة و " الطربوش " يعلو رأسه و " بالطو " فوق حلته ، ونظارة سوداء ذات العدسات المستديرة الصغيرة والتي تشبه ما يضعه شباب اليوم من نظارات على عيونهم .
توقفت عن المشاركة في إنشاد النشيد الملكي " عاش عاش فاروق الملك " ، وتطلعت بعيون محدقة متفحصة لمعرفة شكل وملامح جلالته . نظر إلينا في تؤدة وبطء محركا كفه يمنة ثم يسرة وأنزلها الى جانبه مرة أخرى ، ثم إستدار وأعطانا ظهره واختفى داخل القصر .
تعبنا كل هذه الشهور لنحظى منه بثوان وبنظرة احتقار لنا . اشتد غيظي وغضبي . أمسكت بـ " الطربوش " من فوق رأسي وألقيت به في غضب ساخط على الأرض رافعا قدمي أدوس عليه وأنا أشتم وألعن الملك والحكومة وكل المصريين . وكنت وحدي الذي تصرف هذا التصرف . لم يلتفت الى ما فعلت أحد . الكل يهتف ويهلل وأنا وحدي غاضب حزين .
منذ ذلك اليوم لم أترك مظاهرة إلا واشتركت فيها وكان عمري آنذاك 14 عاما فقط .
إستمر إشتراكي في المظاهرات والهتاف بسقوط الحكومة والحكومات المصرية المتعاقية والتي جعلت من الشركسي الغريب الهاً علينا بمساعدة الأستعمار والأحتلال البريطاني .
قامت ثورة 23 يوليو عام 1952 . في ذلك اليوم سمعت أول رد لي إعتباري وغسل العار الذي لحقني يوم الأحتفال بعيد ميلاد جلالته ، و " الطربوش " الذي ألقيت به تحت قدمي لم أفكر في أخذه من الأرض أو التفكير في ثمنه ، ولم أضع " طربوشا " آخر طوال عمري بعد ذلك . شعرت أن الأهانة التي لحقتني قد ردها الرجال الأحرار عني وخاصة يوم طرد الملك يوم السبت 26 يوليو 1952 .
عشت ابن الثورة عاملا بكل جهد وحماس عضوا في هيئة التحرير والأتحاد القومي والأتحاد الأشتراكي . عشت الأيام التي بعد النكسة متمنيا لو أنني واضعا " طربوشا " فوق رأسي لأمسك به وألقي به على الأرض ساخطا لاعنا نفسي وكل من شارك في المهزلة التي كنا نعيشها . بل تمنيت لو عاد الحكم الملكي لمصر مرة أخرى .
والآن أشعر بنفس الشعور وأتمنى نفس الأمنية وأتطلع إلى فجر يوم جديد تشرق شمسه على مصر والشعب المصري مطهرة بأشعتها نفوسنا ، مضيئة لنا طريق الحرية الحقيقي الذي اطل علينا مرة واحدة في يوم الأربعاء 23 يوليو عام 1952 .
لكن ظلمة النفس الميالة الى السوء وحب الذات أطفأت نور تلك الشمس وحولت حياتنا الى ظلام دامس عشناه مع كل حاكم منذ تلك النكسة ، وما زلنا نعيشه وأعتقد اننا سنعيشه لسنين كثيرة قادمة تحت حكم الأخوان الحالي .
0 comments:
إرسال تعليق