روايته ( مائة عام من العُزلة ) "1"
هذه خطوة فيها شئ من المجازفة بالنسبة لي ، ذاك أني لأول مرّة أتعرّضُ فيها لإحدى روايات ماركيز الأكثر شُهرة / مائة عام من العُزلة، بل وإنها المرة الأولى التي أعرض فيها قراءتي لرواية كاتب من أمريكا اللاتينية هو غابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي. نعم، إنها مُجازفة لأنَّ هذه الرواية بالغة التعقيد متشابكة في أحداثها كثيرة هي الأسماء التي وردت فيها وكثيرة كذلك أسماء المدن والأماكن والبيوت والطرقات. ثم التنقلات السريعة من واقعة لأخرى ومن حدث لأخر غيره فضلاً عن تشابك ما هو واقعي بما هو فوق الخيال من خوارق وخرافات لا يمكن أنْ تحدث في عالمنا المرئي والمحسوس. فضلاً عن الشذوذ وتجاوز الأعراف والمألوف من عادات وطقوس. ف " خوسيه أركاديو بوينديا " يتزوج أخته ريبيكا بالتبنّي. حين قيل له إنها أختك أجاب : لا يهمني ذلك. وحين قيل له : هذا مخالف للطبيعة والقانون يحضره أجاب : أشخُّ مرتين على الطبيعة / الصفحات 117 و 118 . و أوريليانو خوسيه يغازل ويتبادل القُبل مع عمّته أمارانتا / الصفحات 175 ـ 177 . ثم نرى في نهاية الرواية أنَّ " أوريليانو " يغتصب خالته أمارانتا أورسولا وهي في عصمة زوج بلجيكي ثم يتزوجها بعد ذلك / الصفحات 476 ـ 478 . لكنْ كانت مدينة أو قرية " ماكوندو " قلب ومركز أغلب أحداث الرواية. وغطّت الحرب الأهلية بين اللبراليين والمحافظين في بلد لا نعرف اسمه أجزاء كثيرة من صفحات هذه الرواية [ أثار الكولونيل أوريليانو بوينديا اثنتين وثلاثين إنتفاضة مُسلّحة خسرها جميعاً . وكان لديه سبعة عشر ابناً ذَكَراً من سبع عشرة امرأة مختلفة / ص 129 ]. بعد هذه التوطئة القصيرة والعجلى أعودُ لأشخّصَ أبرز خصائص وعلامات هذه الرواية :
1 ـ الخرافات والخوارق والمعجزات
2 ـ رمز الغجري الساحر ميلكياديس
3 ـ طغيان العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو
4 ـ ماركيز والعرب.
الخرافات والخوارق والمعجزات
تكادُ هذه الرواية أنْ تكون بغالبية أحداثها قصص خوارق وعالم من جن وجنيّات وسياحات في اللامعقول وقوى غيبية مجهولة تُحرّك البشر والصخر وتقرأ المجهول. السؤال : لماذا عمد هذا الروائي الكبير إلى مثل هذه الأساليب وهل كانت ضرورية سواء له ككاتب النص أو للنص المروي ؟ ما كانت مقاصده قبل وبعد كل شئ ؟ بقدر تعلق الأمر بي وعلى قدر فهمي للرواية فإني أستطيع القول بثقة إنَّ هذه الخوارق والمعجزات والخرافات كانت بمجموعها حاجات ووسائل وأساليب ضرورية للكاتب بالدرجة الأولى والأخيرة. وسائل تُلبّي حاجات نفسية وثقافية تضغط عليه بإلحاح فيتخذ من الخرافات واللامعقول والميتافيزيقا أقنعة تارةً وقنوات تصريف تاراتٍ أُخَر. وبصراحة مُبسّطة أقول : ما وجدتها ضرورية لبناء متطلبات النص ولا تأثيرَ لها على شروط ومتطلبات السرد والربط ما بين الحوادث ولم تُضفْ قوة إقناع إضافية يُحس القارئ بها فيزداد إلتصاقاً وشوقاً لمتابعة السرد. يستطيع القارئ الكريم حذف أيٍّ من هذه الخزعبلات ليتأكد أنها لم تكن ضرورية أبداً بل وفي أفضل حالاتها ما كانت إلاّ فضول كلام وهذيان وثرثرة. إذاً هي ضرورية للكاتب وليس للنص. الكاتب بحاجة ماسّة لها لا الكتاب. هل يتوجب علينا الجري وراءه مستجدين تفسيراته ؟ كلاّ ، لا نحن بالمجبرين على الإستجداء منه ولا هو بالمُجبر على الإستجابة والعطاء وتقديم الأجوبة التي نتوقع منه. لنسمع ما قال السيد ماركيز في مقدمة روايته الأخرى الأفضل في نظري والأروع أعني رواية " الحبٌّ في زمن الكوليرا " : [ ... أما ماركيز فإنه يقول في أكثر من مناسبة " الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبحَ فناً ] و [ الغرائبي يأخذني ولا يبقى من الواقع إلاّ أرض القصة ]. وقال في مكان آخر عن مائة عام من العزلة [ إنها تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع. كنتُ أودُّ التعبير عن الإرادة الواعية لا أنْ تعدم الواقع. ولكنْ علينا أنْ نُدركَ أنها لم تصالح الواقع / الصفحة 6].
في كلامه هذا تناقض كبير وإلاّ فكيف تكون الإرادة الواعية غير متصالحة مع الواقع ؟ الإرادة الواعية هي التعبير الحي والأقوى عن الواقع وما الواقع إلاّ إرادة. ثم إنه يعترفُ أنَّ رواية مائة عام من العزلة تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع ! لمن يتجه الكاتب إذا ما هرب من الواقع ؟ أمامه عندئذٍ سبيل واحد منفتح على مصراعيه : الخرافات والخوارق والخزعبلات والإيمان بالسحر وقارئات الورق والكفوف والإيمان بسحر بعض الغجر من أمثال ميلكياديس الذي جعله الكاتب يرافقنا لعقود بعد موته فهو الغائب بالموت والحاضر برغبة الكاتب تطميناً لحاجات نفسية وعقلية يُحسُ هو بها لكنا لا نُحسُّ بها ولا نراها.
أسوق أمثلة ونماذج لهذه الخزعبلات التي لم أقتنعْ قطُّ بها ولا بجدواها ولا بأهميتها للأحداث التي فصّلها الراوي رغم قراءتي المتأنيّة لهذه الرواية الطويلة / 501 صفحة :
[[.. ولم تعدْ أورسولا إلى تذكّر زخم تلك النظرة حتى يوم دخل فيه أوريليانو الصغير المطبخ ، وهو في السن الثالثة من عمره ، في اللحظة التي كانت ترفع قدراً تغلي عن الموقد وتضعها على المائدة فقال
الصغيرُ المُتردد وهو عند الباب : سوف تسقط . كانت القدر ثابتة تماماً في وسط المنضدة لكنها بدأت تتحرك فور إعلان الطفل ذلك ، حركة لا رجوعَ عنها بإتجاه الحافة وكانها مدفوعة بآلية داخلية وتهشّمت على الأرض / الصفحتان 23 و 24 ]]. كما سبق وأنْ قال الروائي ماركيز عن هذا الطفل ما يلي :
[[ ... أما أوريليانو ، أول كائن بشري وُلِدَ في ماكوندو فكان سيبلغ السادسة من عمره في آذار. وكان صامتاً ومنطوياً على نفسه. وقد بكى وهو في بطن أمّه وخرج إلى النور بعينين مفتوحتين. وبينما هم يقطعون له الحبل السُرّي كان يحرّك رأسه من جهة إلى أخرى ليتعرفَ على أشياء الغُرفة ويتفحّص وجوه الناس بفضول ودون دهشة / ص 23 ]]
وكتب عن نفس الطفل هذا ما يلي :
[[ .. ولكنَّ عينيه ، بالمقابل ، صارتا مُجدّداً الجمرتين اللتين أخافتا مَن رأوهُ عند ولادته واللتين كانتا تحرّكان الكراسي بمجرد النظر إليها / الصفحة 294 ]]. ثم كتب عنه وقد كَبُر وغدا الكولونيل أوريليانو بوينديا
[[ وفي صباح أحد الأيام وجد أورسولا ـ والدته ـ تبكي تحت شجرة الكستناء على ركبتي زوجها الميّت / الصفحة 295 ]]. ثم كتب عن أب يحاول البرهنة على أنَّ قدرات الله غير محدودة [[ ... حمل إليه الصبي الذي ساعده في القُدّاس فنجاناً من الشوكولاتة الكثيفة يتصاعد منه البخار فجرعه دون يأخذ نَفَساً. وبعد ذلك مسح شفتيه بمنديل أخرجه من كُمّه ومدَّ ذراعيه وأغمض عينيه وعندئذٍ طفا الأبُ نيكانور مرتفعاً اثني عَشَرَ سنتيمتراً فوق سطح الأرض. كانت وسيلة مُقنعة / الصفحات 104 و 105 ]]. أيُعقل مثل الكلام ؟ أصحيحٌ أنْ يرتفع شخص فوق الأرض بعد تناول فنجان من مشروب الشوكولاتة ؟ أهذا دليل على وجود قوة خارقة لا نعرف ما هي تفعل المستحيل كأنْ تقهر قانون الجاذبية الأرضية فترفع بشراً فوق سطح الأرض ويبقى كذلك مُعلّقاً في الهواء ؟ هل هذا دليل على وجود الرب ؟ هنا بالطبع سخرية واضحة من دعاوى رجل الدين المسيحي الأب نيكانور وبرهانه على وجود الرب. قد نفهم مثل هذا الكلام على أنه نكتة ساخرة مُصممة ضد الدين وضد فكرة وجود إله خالق.
نقرأ في الصفحة 43 أنَّ الغجر جاءوا إلى قرية ماكوندو ببساط طائر كأداة تسلية [ وقد نبش الناسُ الأرضَ ، بالطبع، ليُخرجوا آخرَ نقودهم الذهبية ويستمتعوا بجولة طيران سريعة فوق بيوت القرية / ص 43 ].
ما تفسير هذه الخوارق والظاهرات غير المسبوقة وما أهميتها بالنسبة لسياقات نصوص الرواية ؟ كيف يبكي طفلٌ وهو لم يزل في بطن أُمّه وهل في الإمكان سماع مثل هذا البكاء ؟ نعم ، نتابع حركات الجنين في شهريه الأخيرين في بطن أمه ولكن لا من أحد ادّعى سماع صوت جنين وهو في رحم والدته. المواليد الجُدد يبكون لحظة استنشاقهم الهواء الحر لأول مرة وهذا البكاء ضروري لإنفتاح الرئتين وتدشين عملية التنفس شهيقاً وزفيراً. تكلم الروائي الألماني كونتر هاس في رواية طبل الصفيح عن إنسان تأخر نموه بسبب حادثة سقوط تعرّض لها هذا الإنسان زمن طفولته. وربما لهذا السبب أو لغيره كان في مقدوره أنْ يُحطّم زجاج النوافذ والأبواب إذا ضرب على طبلة معلّقة في رقبته تتدلّى على صدره ورافق هذا الضرب إطلاق صرخات حادّة عالية. واضح مصدر هذه الحكاية .. ففي التوراة مثيل لها يقول إنَّ ... إذا ضرب على طبله وتعالى صُراخه تنهارُ حصون مدينة أريحا .. ! خرافات وأمانٍ لا أكثر. في رواية مائة عام من العزلة غير القليل من أشباه هذه الخزعبلات.
أورسولا هي أم الطفل الخارق أوريليانو.
مثال آخر له طبيعة أخرى مُغايرة وله ما يشابهه في مسرحيات شكسبير وخاصة هاملت ومكبث. أقصد ظهور أشباح القتلى غيلةً. ففي هذه الرواية يقتل رأسُ عائلة آل بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو المدعو خوسيه أركاديو بوينديا .. يقتل شخصاً وجّه له إهانة إتهمه فيها بالعجز الجنسي بطعنه في رقبته برمح. ما الذي حصل بعد مقتل برودينثيو أغيلار ؟
[[ .. وفي ليلة لم تجدْ فيها أورسولا إلى النوم سبيلاً، خرجت إلى الفناء لتشربَ ماءً فرأتْ برودينثيو أغيلار إلى جانب الجرّة. كان شاحباً وبملامح شديدة الحُزن يحاول أنْ يسدَّ بسدادة من أوراق الحلفاء الثقب الذي في حنجرته .. ]] .... [[ وبعد ليلتين من ذلك رأت أورسولا ، مرةً أخرى، برودينثيو أغيلار في الحمّام يغسل بأوراق الحلفاء الدم المتخثّر على عنقه. وفي ليلة أخرى رأته يتمشّى تحت المطر. تضايق خوسيه أركاديو بوينديا من رؤى زوجته وخرج إلى الفناء مُسلّحاً بالرمح. وهناك كان الميّت بملامحه الحزينة فصاح به خوسيه أركاديو بوينديا : إذهبْ إلى الجحيم. فكل مرة تعودُ فيها سأعودُ لقتلك من جديد. لم ينصرفْ برودينثيو أغيلار ولم يجرؤ خوسيه أركاديو على قذفه بالرمح. ومنذ ذلك الحين لم يعدْ يستطيع النوم / ص 33 ]]. رأينا مثل هذه الرؤى في مسرحيات شكسبير فدم الأبرياء المسفوك ظُلماً لا ينفكُّ يؤرّق سافكيه القَتَلة ويؤنب الضمائر ويستصرخ شرف الإنسانية أنْ تهبَّ لأخذ الثأر. أردتُ القول إنَّ هذا الأسلوب قديم ومطروق ولا من جديد فيه.
لكنْ هل هو ضروري للرواية وتتابع أحداثها ؟ ذلكمْ هو السؤال الذي قد نختلف كثيراً حوله.
الغجري الساحر ميلكياديس
قلتُ سابقاً إنَّ الروائي ماركيز كان شديد الحرص على إبقاء هذا الغجري في الرواية بالعرض وبالطول نجده إينما وليّنا متلبساً الأحداث مُخترقاً أنسجة القصص والسرد فما السرُّ في ذلك وما مغزى وأهمية هذا الشبح الذي فارق الحياة منذ أوائل صفحات الرواية ؟ [[ .. وفي ما بعد ذلك ، أكدَّ له غجرٌ آخرون أنَّ ميلكياديس قد مات فعلاً تحت وطأة الحُمّى في كثبان شواطئ سنغافورة ، وأنَّ جثمانه قد أُلقي في أعمق مكان من بحر جاوا / الصفحة 26 ]]. نمضي مع صفحات الرواية لنقرأ في الصفحات 90 ـ 91 ـ 92 أنَّ هذا الرجل ما زال حيّاً لكنه أخيراُ يموت في النهر غَرَقاً ! قُبيلَ موته غرقاً كان يردد عبارات من قبيل [ لقد بلغتُ الخلود ] و [ إننا من ماء ] , [ لقد متُّ بالحُمّى على كثبان شواطئ سنغافورة ]. صحيح أنَّ مؤسس قرية ماكوندو السيد خوزيه أركاديو بوينديا قد تأثّر بشخصية وخوارق الغجري الساحر ميلكياديس وصحيح أنه تعلّم منه سر تركيز أشعة الشمس بواسطة عدسة كما تعلّم منه صنعة الخيمياء / الكيمياء / لأجل مضاعفة الذهب أي زيادة تركيزه .. وقبل ذلك محاولة إستخلاصه من الأرض وما تحتها بالمغناطيس .. كل هذا صحيح لكن الساحر الميت منذ عقود ظلَّ سيّداً لبعض المواقف حتى بعد وفاة مؤسس القرية . جاء ذكره عدّة مرات في الصفحة 498 أي قُبيل ختام الرواية فماذا قيل عنه وما أهمية ذِكْره لعدد من المرات ؟ أنقل ما كتب الروائي عنه ، والكلام عن أوريليانو إبن أخت وزوج أمارنتا أورسولا :
[[ ... لأنه صار يعرف عندئذٍ أنَّ قَدَره مكتوب في رِقاق ميلكيادس. وجدها سليمةً بين النباتات الخرافية والبرك المُدخّنة والحشرات المُضيئة التي أزالت من الغرفة كلَّ أثرٍ لمرور البشر على الأرض ولم يجدْ الهدوء ليُخرجها إلى النور، وإنما هناك بالذات، وهو واقف ودون أدنى صعوبةٍ ، كما لو أنها مكتوبة بالقشتالية، تحت بريق الظهيرة الُمبهِر، بدأ يحلُّ رموزها بصوتٍ عالٍ. كانت تروي تاريخ الأسرة وقد كتبها ملكياديس بأدق التفاصيل وأتفهها، قبل مائة عام من وقوعها؟ لقد كتبها بالسنسكريتية وهي لغته الأم .... أما وسيلة الحماية الأخيرة وكان أوريليانو قد بدأ بتبنيها عندما أسلمَ نفسه لتشوش حب أمرانتا أورسولا فتكمن في أنَّ ميلكيادس لم يوردْ الوقائع مُرتّبة وفق زمن البشر المتعارف عليه وإنما ركّزَ قرناً كاملاً من الأحداث اليومية بحيث تتواجدُ جميعها متعايشة في لحظة واحدة.... / الصفحة 498 ]]. هنا إذاً الجواب الشافي والدقيق عن تساؤلاتي حول الغجري الساحر ميلكيادس. إنه كتب تاريخ أسرة مؤسس قرية ماكوندو والجد الأعلى لعائلة بوينديا السيد " خوسيه أركاديو بوينديا " على مدى قرن كامل من الزمن ولكنْ جعل تفاصيل هذا التاريخ تتعايش في لحظة واحدة. وقد سبق وأنْ كشف أوريليانو بعض رموز الغجري ميلكيادس المكتوبة على بعض الرقاق والتي تقول ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل ) وهذا بالفعل ما قد حصل ، فقد قضّى الجد المؤسس العديد من آواخر سني عمره مربوطاً إلى شجرة كستناء ضخمة هناك كان يجلس ويأكل وينام تحت رعاية زوجه أورسولا. أما آخر السلالة ، وهو نتاج زواج غريب، فقد جفَّ وافترسه من ثم النمل.
ثم نقرأ في آخر سطور هذه الرواية الطويلة ما يلي [[ ... في اللحظة التي ينتهي فيها أوريليانو بوينديا من حلِّ رموز الرِقاق، وأنَّ كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أنْ يتكرر منذ الأزل إلى الأبد، لأنَّ السلالات المحكومة بمائة عام من العُزلة ليست لها فُرصة أخرى على الأرض ]].
هل هي نبوءة ساحر غجري أو أنها واقعة ملموسة أم أنها حقيقة علمية ؟
لقد جاء في الرواية ولعدة مرات ذِكر نبوءات أو تفسيرات نوستراداموس ، فهل ما كتب الساحر الغجري في رقاقه عن تاريخ ومصير عائلة بوينديا كان أحد نبؤات نوستراداموس ؟
العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو
كثُر البغاء والبغايا واتسعت الدعارة وبيوتها مع تطور قرية ماكوندو التدريجي من مجرد قرية صغيرة بائسة إلى مدينة شهدت أولى معالم الحكومة والرأسمالية. ظهر فيها شاب إيطالي يعلم فتيات المدينة أصول الرقص ويبيع إسطوانات الموسيقى ثم يغدو خطيباً لإحدى بنات المؤسس. ثم يأتي القطار ومعه يأتي البريد الأسبوعي منتظماً .. ثم يأتي الكهرباء حتى يبلغ التطور الرأسمالي في هذه المدينة مستويات قريبة من الذروة بتأسيس شركة أصحابها أمريكان لزراعة وتسويق الموز. تأسست مع نشوء هذه الشركة طبقة عمالية بلغ تعدادها أكثر من ثلاثة آلاف عامل.
أصبح النقيصُ يواجه نقيضه : العمال الفقراء أمام الرأسمال. كانت الحكومة المركزية بالطبع مع الرأسمال تحميه وتدافع عنه بكافة الوسائل القانونية وغير القانونية على رأسها قوة الشرطة والسلاح والجيش. مع شركة الموز بدأت إضرابات العمال وبدأ القتل الجماعي للمضربين [[ أنَّ الجيش حاصر ثلاثة آلاف عامل وقتلهم بالرشاشات وحُملت الجثث في قطار من مائتي عَرَبة لتُرمى في البحر / الصفحة 491 .. مثلاً ]]. ثم حلَّ الخراب وأُغلقت الشركة وهرب أصحابها كلٌّ إلى بلده.
هل لهذا التطور الرأسمالي التدريجي علاقة بسعة إنتشار البغاء في مدينة ماكوندو ؟ الجواب كلاّ ، كان البغاء موجوداً خاصة بوجود الغجر الموسمي ، وكان هناك ما دامت كانت هناك بغايا .
ـ من أوائل مومسات قرية موكاندو شابّة اسمها بيلار تيرنيرا [[ كانت ضمن الهجرة التي تُوّجت بتأسيس ماكوندو ، إقتادتها أسرتها لإبعادها عن الرجل الذي اغتصبها وهي في الرابعة عشرة وظلَّ يُحبّها حتى بلوغها الثانية والعشرين لكنه لم يُحسم أمره قط في إعلان علاقتهما أمام الملأ / ص 39 ]]. سقطت تحت أعباء حرمانها ونكبتها بمن أحبّت تحت رحمة قوة إغراء الشاب خوسيه أركاديو إبن أورسولا البِكر فعاشرها وعاشرته حتى فاجأته ذات يو م بالقول [[ أنت الآن رجل بالفعل . ولأنه لم يفهم ما الذي تعنيه فقد أوضحت الأمرَ حَرفاً فحرفاً : سيكونُ لك ابن / ص 44 ]]. بدل أنْ يتزوجَ منها [[ عقد خوسيه أركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47 ]]. في غيبته ورحيله مع الغجر ولدت بيلار تيرنيرا وَلَداً وكان بالطبع ابنَ سِفاح ! أسموه كذلك خوسيه أركاديو.
سنقرأ في الصفحة 79 أنَّ هذه المرأة أنجبت إبنين آخرين من أبوين مجهولين ! وسنعرف أنَّ أورليانو قضّى ليلة وهو تحت حالة سكر شديدة مع هذه المرأة / ص 86 ، ثم تخبره فيما بعدُ أنها قد حملت منه وإنه سيعترف بما حملت ويمنحه اسمه / ص 97 .
منذ هذه اللحظة بدأ نطاق الدعارة بالإتساع وكما يلي :
ـ حانوت كاتارينو
ما كان هذا الحانوت إلاّ نِزلاً أو منزولاً مخصصاً لممارسة الدعارة يُديره رجلٌ اسمه كاتارينو . نقرأ وصفاً أنموذجياً لما كان يدور هناك من سمسرة :
[[ .. ذهبَ أوريليانو ـ إبن أورسولا الثاني ـ إلى حانوت كاتارينو ... وأمام باب في أقصى المكان يدخل ويخرجُ منه بعض الرجال كانت تجلس وتُهوّي بصمت إمرأة الكرسي الهزّاز البدينة. وكان كاتارينو الذي يضع وردةً من اللبّأد على أُذنه يبيعُ القادمين طاساتٍ من عصير قصب السُكّر المُخمّر ويتحينُ الفُرص ليدنو من الرجال ويضعُ يده حيثُ لا ينبغي له أنْ يضعها. في حوالي منتصف الليل صار الحرُّ لا يُطاق. وقد استمع أوريليانو إلى الأخبار حتى نهايتها دون أنْ يجد بينها خبراً يهمُّ أسرته. وكان يتأهبُ للعودة إلى البيت عندما أومأتْ له المرأةُ البدينة بيدها وقالت : أُدخلْ أنتَ أيضاً. لا يُكلّفكَ ذلك إلاّ عشرين سنتافو. ألقى أوريليانو قطعة النقود في الحصّالة التي تضعها البدينة بين ساقيها ودخل الحجرة دون أنْ يدري السبب. كانت المراهقة الخُلاسية بنهديها الشبيهين بضرع كلبة عاريةً على الفراش وكان قد مرَّ على الغرفة قبل أوريليانو في تلك الليلة ثلاثةٌ وستون رجلاً ... / ص 68 ]].
يتكرر ذِكرُ حانوت كاتارينو مِراراً في هذه الرواية لأنَّ مرتاديه كِثارٌ ومن مختلف فئات مجتمع مدينة ماكوندو كباراً ومراهقين عزّاباً ومتزوجين عسكريين ومدنيين. لقد ارتاده أوريليانو مرةً ثانية مع صديقيه / ص 85 . كما ارتاده الكولونيل أركاديو / ص 139 . العجيب أنَّ هذا حاول اغتصابَ أمّهِ بيلار تيرنيرا وما كان يعرف أنها أمُّه. حاول ذلك مراراً فوافقت لكنها خدعته إذْ اتفقت مع فتاة عذراء اسمها صوفيا قديسة الرحمة لقاء أجر سخيٍّ أنْ تلتقيه في الظلام في المكان والزمان المحددين ففوجئ بها وقد عرف أنها امرأة أخرى وطابت له وصارا يمارسان الحب يومياً وبشكل دائم .. و [ٌ[ في الفترة التي عُيّنَ فيها أركاديو قائداً مدنياً و عسكرياً للقرية أنجبا إبنة / ص 141 ]].
هكذا كان مجتمع مدينة ماكوندو وكما وصفه الأب نيكانور رينا [[ .. ذُعرَ من الجدب الروحي لأهالي ماكوندو الذين يزدهرون في الرذيلة مُثبّتين إلى قانون السجيّة دون أنْ يُعمّدوا أبناءَهم أو يقدّسوا أيام الأعياد. فكّرَ أنه ليست هناك بقعة أرض بحاجة إلى بذرة الرب أكثر منها. وقرر البقاءَ أسبوعاً آخرَ ليُنصّرَ المختونين والوثنيين ويُشرّع حالات مساكنة المحظيات / ص 103 ]].
بيترا كوتيس
تمثّلُ هذه المرأة نموذجاً آخرَ لحال مدينة ماكوندو ولوضع النساء بشكل عام فيها حيث المجون المنفلت والقصف واللهو والعبث والجنس المتعدد الأساليب والألوان وسيادة الخرافات واجتماع النقائض حيث الإلحاد والدين فضلاً عمّا دار من حروب أهلية استمرت لبضعة أعوام ثم تمرد عسكري كان قادة الإثنين رجالاً شباباً من عائلة بوينيدا. ما الغريب في قصة هذه السيّدة ؟ كانت أرملة شابة وفي ظرف خاص كانت تضاجع أخوين في وقت واحد ظانّةً أنه واحدٌ نظراً للشبه الكبير بين هذين الأخوين. أُصيب كلاهما بمرض جنسي / زُهري لعله السفلس أو السيلان عالجاه وشفيا منه. هذا الأمر يدل بقوة أنَّ هذه ( السيّدة ) كانت تمارس الجنس مع غير الأخوين. أي أنها كانت هي الأخرى بغيّا. لكنَّ مصيرها في نهاية المطاف انتهى أنْ تكون عشيقة دائمة لأحد هذين الأخوين المدعو أوريليانو الثاني .. أحد أبناء وسليل عائلة بوينيدا. الغريب ، ولا غرابة في القص الخيالي والعجائبي لما كان يدور في مدينة خُرافية قامت مِن وفوق لاشئ ، أنَّ هذه السيّدة الأرملة ظلّت عشيقة للسيد أوريليانو الثاني حتى بعد زواجه بل وكان هذا يُقضّي أياماً وشهوراً معها في بيتها وبعلم زوجه السيّدة فرناندا [[ .. وكانت قناعته تزداد بأنَّ نجمه الطيّب لا علاقةَ له بسلوكه وإنما بتأثير خليلته بيترا كوتيس ، وأنَّ لحُبّها فضيلة قلب نظام الطبيعة . وكان مُقتنعاً بأنَّ هذا هو سبب ثروته إلى حدّ أنه لم يُبعدْ بيترا كوتيس قطّ عن بهائمه وحتى عندما تزوّجَ وأنجب أبناءً واصلَ العيش معها بموافقة زوجته فرناندا / ص 233 ]].
أشكال أخرى للدعارة في مدينة ماكوندو
ـ صبيّات الجوع والدعارة مقابل الطعام
" تُسمسرُ " قوّادة في بيتها على مجموعة من الصبايا صغيرات السن مُدقعات يمارسن البغاء مقابل القليل من الطعام تبيعه القوّادة لهن بما يتقاضين من نقود الزبائن لا أكثر. تبين هذه الصورة مدى الفقر والعَوَز والفاقة التي كانت سائدة في مدينة ماكوندو قبل خرابها وهجرة من هاجر منها وانمحاء أثر عائلة بوينيدا. نقرأ ما كتب ماركيز :
[[ في الأمسية التي ألقى فيها أوريليانو محاضرته عن الصراصير إنتهى النقاش في بيت البنات اللواتي يُضاجعنَ بدافع الجوع ، وهو ماخور وهمي في ضواحي ماكوندو صاحبته قوّادة باسمة ، مُعذّبة بهوس فتح أبواب وإغلاقها ... وما أنْ يتلقين مبلغ البيزو وخمسين سنتافو حتى ينفقنه على رغيف خبز وقطعة جبن تبيعه لهنَّ صاحبة المحل / الصفحات 467 ـ 468 ]].
ما سبب قول الروائي عن هؤلاء الصبايا إنهنَّ محض اختلاق وإنَّ محل الدعارة هذا لا وجودَ له إلاّ في المخيّلة وإنَّ ذلك الطعام ليس حقيقياً / نفس الصفحتين مارتي الذِكْر؟ إنها خرافة مدينة اسمها ماكوندو قامت من العدم وستؤول بعد مائة عام إلى عدم ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل / ص 498 ). كل شئ فيها غير طبيعي وناسها منحرفون يخالفون نواميس وقوانين الطبيعة السوية.
ـ السيّدات الفرنسيات
ورد ذِكْرُ السيدات الفرنسيات أكثرَ من مرّة في رواية ماركيز بنعوت شتى ليس بينها ما يُشيرُ إلى مزاولتهنَّ البِغاء [[ .. والشئ الوحيد الذي تبقّى من تلك المبادرة الفاشلة هو نفحة التجديد التي جلبتها السيّدات الفرنسيات ، فقد بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليب الحب التقليدية وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو العتيق .. / ص 239 ]]. حانوت كاتارينو هو منزول الدعارة الذي سبق ذكره مراراً. هل نفهم من عبارة " وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو " أنهنَّ كذلك مومسات يمارسن البِغاء في دار خاص بهنَّ بطرق وأساليب فرنسية جديدة على عالم مدينة ماكوندو حتى أقفر حانوت كاتارينو وأقفل أبوابه بعد أنْ عرف زبائنه القدامى مزايا وحسنات منزول الفرنسيات ؟ [[ بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليبَ الحب التقليدية / ص 239 ]]. ورد ذِكرهنَّ في الصفحة 273 وفي الصفحة 274 . خلا مرة واحدة فقط أسماهنَّ فيها مومسات [[ المومسات الفرنسيات / الصفحة 393 ]]
ـ نساء وقوّادات بابليات !
ما كان في رأس السيد غابرييل غارسيا ماركيز إذْ ينعت مومسات وقوّادات بأنهنَّ بابليات ؟ إنه لم يزر العراق والعراق في الزمن القديم هو بابل وبابل أكثر من بابل فالأولى كانت بابل المشرّع الأكبر حمورابي ثم بابل نبوخذّنصّر الكلداني ثم بابل اليوم وهي محافظة مركزها مدينة الحلة. هذا عرض شديد الإيجاز لتاريخ بابل يدفعني للتساؤل عن مغزى وهدف كاتب الرواية من نعته للبغايا والقوّادات بإنهنَّ بابليات ؟! قد يقول قائلٌ إنه حرصي وغيرتي على بابل ، بابل العراق وبابل حمورابي ونبوخذّنصّر ثم عراق اليوم البابلي وعاصمته مدينتي ومدينة أهلي وأجدادي : الحلّة. لا أنفي هذا أبداً وكيف أنفيه . لا أنصرف للجزئيات وبعض تفاصيل الحياة وما حصل في العراق لأكثر من نصف قرن من تطاحنات عقائدية ـ سياسية ثم مذهبية وحروب وغزو وحصار طويل ممُضٍّ قاتل ثم احتلال أدّت في بعض منعطفاتها إلى تشويشات وتشويهات وادعاءات يصعب دحضها حول سلوك بعض العراقيات [ البابليات ] خاصة في الكويت ومشايخ الخليج. نرى اليوم نظير ذلك مما تتعرضَّ له حرائر سوريا في بلدان اللجوء تركيا والأردن ولبنان. هل هذا ما قصده السيد ماركيز ؟ لا ، أبداً . إنه جدَّ بعيد عن العراق والخليج .. إنه رجل من كولومبيا في أمريكا اللاتينية ثم إنه ليس سلمان رشدي ! إذاً أية بابل كان قد عنى ؟ عشتار آلهة الجنس والخصب والتناسل ؟ بغايا معابد بابل يمارسن الجنس المقدّس ؟ سمير أميس الملكة التي قيل عنها إنها كانت تعشق حصانها وكانت تمارس الجنس معه ؟ الراجح أنَّ الرجلَ قد قصد بغايا المعابد اللواتي كنَّ يمارسن الجنس للتكاثر مجاناً لوجه الإله مردوخ. أظنَّ أنَّ السيد ماركيز قد شطح وارتكب خطأً لا لزومَ له أبداً. البغاء أقدم مهنة في تاريخ البشرية ومع البغاء تأتي السمسرة والقوادات والقوادون وكان ولم يزل معروفاً ومنتشراً في كافة بقاع العالم فما الذي حدا به إلى حصر هذا الأمر ببابل ولم يذكر أثينا مثلاً أو روما ؟ المهم ... لقد ذكر الرجلُ بابلَ في عددٍ من المناسبات ، قال في الصفحة 278 [[ .. وفي يوم أربعاء مجيد جاؤوا بقطار مُحمّل بمومسات غير معقولات، إناث بابليات بارعات بأساليب عريقة في القدم ومزوّدات بكل أنواع المراهم والأجهزة لإستثارة العاجزين وتنشيط الخجولين وإشباع نهم النهمين وتحفيز المتواضعين وتقويم غير السويين وإصلاح المتوحدين ]].
كما قال في الصفحة 462 ما يلي [[ ... وإنَّ شركة الموز رحلت وإنَّ ماكوندو تنعم أخيراً بالسلام منذ سنوات طويلة. وقاده ذلك التجوال إلى حي التسامح المتردي حيث كانت تُحرقُ في أزمنة أخرى رزم من الأوراق النقدية لتنشيط رقصات الكومبيامبا ، وتحوّلَ آنئذٍ إلى متاهة شوارع أشدّ كآبةً وبؤساً من الشوارع الأخرى ، مع بعض القناديل الحمراء التي لا تزالُ مُضاءةً فيه، وقاعات رقص مُقفرة مُزيّنة ببقايا أكاليل زهرٍ حيث أراملُ لا أحدَ الحزيناتُ والبديناتُ والجدّات الفرنسيات والقوّادات البابليات ، يواصلنَ الإنتظار إلى جوار الفونوغرافات ]]. كانت شركة الموز رمزاً لنشوء وتطور الرأسمالية في مدينة ماكوندو حيث حصل التضاد والتصادم الأعظم بينها وبين العمال ووقع إثرَ ذلك ما وقع من مقتل ثلاثة آلاف عامل من عمال هذه الشركة.
أما القناديل الحمراء فإنه رمزٌ معروف في مدن الغرب وأمريكا توضع أمام بيوت الدعارة لإرشاد وقيادة الزبائن إليها. كما توضع في البيوت الخاصة أمام حجرات السيّدات ليلاً في ساعات ممارسة الحب ـ الجنس مع عشّاقهن والرجال مع صديقاتهم .
إستفزني ذكرُ بابلَ وأنا بابلي ! يا ماركيز / حذارِ ... إبتعد عن بابل . تجنّب نيران بابل وغضب عشتار ومردوخ.
ماركيز والعرب
أخيراً ، هل كان السيد ماركيز ضد العرب في روايته هذه ؟ يصعب البت في هذا الأمر. ذكرَ العرب في مواضع شتّى تبدو لأول وهلة محايدة لا لونَ ولا طعمَ لها لكني ... نعم لكني ... أظنُّ ، وبعض الظن إثمٌ ، أنَّ فيها رائحة مشبوهة لكنها خجولة حَذِرة لأسباب معروفة. ذكر العربَ بأوصاف لا تُشرّفُ أحداً من العرب وخلطهم بالترك إذْ أطلق على شارعهم اسم شارع التُرك ! لا أتدخلُّ فيما قال لكني أكتب حرفياً ما قال عنهم وأترك الحكم للقرّاء الكرام.
[[ .. كانت ماكوندو آخذة بالتبدّل فالناس الذين جاؤوا مع أورسولا اكتشفوا جودة أرضها وموقعها الممتاز بالنسبة لمنطقة المستنقعات، وسرعانَ ما تحوّلتْ الضيعة التي كانت صغيرة ومتواضعة في أزمنة أخرى إلى قرية تعجُّ بالنشاط. فيها متاجر وورش حِرفية وطريق تجاري دائم جاء عَبْرَه أولُّ العربِ الذين ينتعلون البابوجات ويُعلّقون الأقراطَ في آذانهم ليقايضوا عقوداً من الزجاج ببغاوات / الصفحتان 51 ـ 52 ]].
هل كان العربُ الأوائل يضعون أقراطاً في آذانهم ؟ ذلك ما لا أعرفه وما لم أسمعْ به. غير أنَّ أمراً أفرحني ذاك أنَّ هؤلاء العرب الأوائل ما كانوا يمشون حُفاة الأقدام بل كانوا [[ ينتعلون البابوجات ]]. هذا أول ذِكْرٍ للعرب في هذه الرواية.
في الصفحة التالية 53 جاء ذكرُ العرب كما يلي :
[[ .. فرضَ خوسيه أركاديو بوينديا خلال وقت قصير حالة من النظام والعمل لم يسمحْ فيها إلاّ بتصريحٍ وحيد : إطلاق سراح الطيور التي كانت مُنذُ تأسيس ماكوندو تبعثُ المرح في الجو بألحانها، واستبدالها بساعات موسيقية في كل البيوت وهي ساعات جميلة من الخشب المشغول بمهارة، كان العربُ يبادلونها بالببغاوات .. / ص 53 ]]. العربُ إذاً تجّار يُقدّرون أهمية وقيمة الطيور ولا سيّما طيور الببغاء الزاهية في ألوانها والعجيبة في قدرتها على نطق بعض الكلمات البسيطة.
ما قال ماركيز أيضاً عن العرب ؟ قال في الصفحة 73 عنهم ما يلي :
[[ كان دون أبولينار موسكوتي الحاكم قد وصلَ إلى ماكوندو دون ضجّة ونزلَ في فندق يعقوب الذي أقامه أحدُ أول العرب الذين جاؤوا يقايضون بضائعهم التافهة بالببغاوات ]]. كما ورد ذِكْرُ العرب في الصفحة 400 كما يلي [[ .. وكان شارع الأتراك قد عاد مُجدداً إلى ما كان عليه، شارع الأزمنة التي كان فيها العربُ ذوو الأخفاف والأقراط في آذانهم يجوبون العالم مُستبدلين بضائعهم الرخيصة بالببغاوات ]]. غير أنَّ الروائي ماركيز مدح العربَ مرتين ، نقرأ ما قال عنهم في الأولى [[ .... لكنَّ عربَ الجيل الثالث كانوا جالسين في المكان نفسه والوضع نفسه الذي جلس فيه آباؤهم وأجدادُهم صامتين، رابطي الجأش، عصيين على الزمن والكارثة، مُفعمين بالحياة أو الموت مثلما كانوا بعد وباء الأرق وحروب الكولونيل أوريليانو بوينديا الإثنتين والثلاثين. وكانت تُثير الذهولَ متانة معنوياتهم أمام أنقاض مناضد اللعب وعربات المأكولات المقلية وأكشاك الرماية على الهدف / ص 401 ]]. وقال في المرة الثانية عنهم [[ ... ربما كانت بيترا كوتيس هي الوطنية الوحيدة التي لها قلب عربي. فقد رأتْ وقائعَ الدمار الأخيرة في حظائرها وإسطبلاّتها التي جرفتها العاصفة ولكنها تمكّنت من إبقاء البيت مُنتصباً / ص 401 ]]. هل رأى ماركيز عرباً في جمهورية كولومبيا يضعون في آذانهم أقراطاً وينتعلون بابوجات ويقايضون بضاعة رخيصة بطيور الببغاء ؟ جميل منه أنْ يعترف لهم بالصمود أمام الكوارث وبفضيلة متانة المعنويات. لا أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في كولومبيا لذا ليس في الوسع مناقشة ماركيز أو محاججته أو دحض ادعاءاته حول ما قال في العرب. لماذا يُسمّي الشارع الخاص بهم شارع التُرك ؟ بالمناسبة ... في مدينة ميونيخ الألمانية شارع حيوي معروف يحمل اسم شارع التُرك
Türkenstrasse
كما أنَّ في فنلندا مدينة كبيرة شهيرة اسمها توركو !
خلاصة إستعراضية سريعة :
يستطيعُ أيُّ قارئٍ لرواية مائة عام من العزلة أنْ يقولَ عنها إنها استعراض مُفصّل لتاريخ عائلة خوسيه أركاديو بوينديا ، رأس عائلة بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو التي تطورت فغدت مدينة ثم درست بفعل عوامل كثيرة فصّلها الراوي بدقّة. نظرة عجلى على شخوص هذه العائلة تترك لدينا الإنطباع القوي أنَّ جميعَ أفراد هذه العائلة بكافة أجيالها المتعاقبة ( مع إستثناءات قليلة ) هم ليسوا أسوياء حسب القواعد المعروفة للجنس البشري. فهم بين مجنون أو شاذ جانح أو منحرف عقلاً وسلوكاً. أستعرضهم واحداً واحداً :
الرأس والمؤسس خوسيه أركاديو بوينديا / كان بفطرته ضد أي شكل من أشكال الحكومة وكان شعوره وقراره أنه هو سيّد وحاكم ومؤسس مدينة ماكوندو. لم يُخفِ ذلك أبداً فقد قال للحاكم الذي أرسلته الحكومة المركزية بصريح العبارة [ أنتَ وأنا سنبقى عدوين / ص 76 ].
ـ إنصرف إلى المقامرة بصراع الديّكة
ـ قتل شخصاً وجّه له إهانة بطعنة رمح قاتلة
ـ مضى عام على زواجه دون أنْ يستطيع ممارسة حقوقه الزوجية مع زوجه أورسولا إلاّ في اليوم الذي قتل فيه غريمه إذْ ( دخلَ خوسيه أركاديو بوينديا إلى غرفة النوم حين كانت امرأته تقوم بارتداء بنطال العفّة فأمرها وهو يهزُّ الرمحَ في مواجهتها " إخلعي هذا " ولم يخامر الشكُّ أورسولا في تصميم زوجها / ص 32 ). [[ .. وانطلقت الشائعة بأنَّ أورسولا ما زالت عذراء بعد سنة من زواجها لأنَّ زوجها عِنّين / ص 31 ]].
ـ شغل نفسه في محاولات لصنع أو إستخلاص أو تركيز الذهب / إذا لم تخشَ اللهَ فاخشَ المعادن .. هذا ما قال لإبنه أوريليانو .
ـ إنتهى أمره إلى مصير غريب إذْ دأب على قضاء وقته جالساً أو نائماً تحت شجرة كستناء بل ومن ثمَّ ربطوه بحبل إلى جذع هذه الشجرة.
ولده البِكر خوسيه أركاديو /
ـ عاشر امرأة تُدعى بيلار تيرنيرا ثم تركها ليلتحق بالغجر [[ كان يوم خميس وفي ليلة السبت عقد خوسيه اركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47 ]]. أنجبت منه في غيابه طفلاً كفله جده وجدته وأسموه خوسيه أركاديو لكنهم بسّطوا الإسم فصاروا ينادونه أركاديو. هذا إذاً إبنُ سفاح.
ـ تزوج من ريبيكا، أخته بالتبني. وهذه لم تترك عاداتها القديمة زمن طفولتها إذْ بقيت تمصُّ اصبعها وتأكل الطين والتراب وتحتفظ في كيس عظام أبيها الراحل.
الإبن الثاني الأصغر هو أوريليانو / تزوّج الطفلة ريميديوس، إبنة الحاكم الصغرى. خطبها حين كانت ما زالت ( تبول في فراشها ) ... وتزوّجها لدى ظهور أولى علامات بلوغها. كان فارق العمر بينهما كبيراً. ماتت ريميديوس وهي حامل مسمومة عن طريق الخطأ فالسم كان أصلاً مُعدّاً لغيرها ، لريبيكا فسلمت هذه وماتت تلك.
ـ إنضمّ إلى صفوف الثوّار اللبراليين ضد الحكومة وحزب المحافظين وصار يُسمّى الكولونيل اوريليانو بوينديا . [[ أثار اثنتين وثلاثين انتفاضة مُسلّحة خسرها جميعها . وكان لديه سبعة عشرَ ابناً ذكراً من سبع عشرة امرأة مُختلفة أُبيدوا واحداً بعد الآخر في ليلة واحدة قبل أنْ يُكمل أكبرهم خمساً وثلاثين سنة / ص 129 ]].
ـ [[ رفضَ المعاش التقاعدي مدى الحياة بعد أنْ انتهت الحربُ وعاش حتى الشيخوخة من الأسماك الذهبية الصغيرة التي يصنعها في مشغله في ماكوندو / ص 129 ]].
أمارانتا .. الإبنة الوحيدة لأورسولا وخوسيه أركاديو بوينديا / أمارانتا أكثر أفراد هذه العائلة شذوذاً .
ـ أحبّت خطيب أختها الإيطالي وكان قرارها الأكيد أنْ تحول دون زواجهما [[ .. لكنها عاهدتْ نفسها بأنَّ ريبيكا لن تتزوج إلاّ بالمرور على جثّتها / ص 89 ]]
ـ حاولت قتل أختها المُتبناة، ريبيكا ، بالسم لكنَّ السم أخطأ طريقه فصار من نصيب ريميديوس الجميلة زوج شقيقها أوريليانو خوسيه.
ـ أحرقت كفها ثم لفّته بكمّادات سود لازمت كفّها طوال حياتها.
ـ رفضت عروض الزواج وبقيت عزباء حتى آخر العمر.
ـ شرعت لفترة بمغازلة ابن أخيها وبادلته القُبل بل وكانا يتحممان عاريين معاً. يبدو أنَّ ابن أخيها كان عازماً إما على ممارسة الجنس معها أو الزواج منها. سأل مرةً [[ هل يُمكن للمرء أنْ يتزوجَ من عمّته ؟ فأجابه أحد الجنود : ليس ممكناً فحسب، بل إننا نخوضُ هذه الحرب ضد الخوارنة كي يستطيع أحدنا الزواج من أُمّه نفسها / ص 184 ]].
[[ كانت تقولُ له وهي مُحاصرة بكلاب صيده : أنت وحش. ليس صحيحاً أنه يُمكن عملَ هذا مع عمّة مسكينة إلاّ بالحصول على موافقة خاصة من البابا . فيعدها أوريليانو خوسيه بأنْ يذهبَ إلى روما ويعدها بأنْ يجتازَ أوربا زاحفاً على ركبتيه وأنْ يُقبّلَ خُفَّ الحِبر الأعظم لمجرّد أنْ تُنزل هي جسورها المُعلّقة / 184 ـ 185 ]].
رأي أخير
لا يشكُّ أحدٌ في قدرات الروائي غابرييل غارسيا ماركيز الكتابية وعلى رأس هذه القُدرات ، لا الخيال الجموح المُنفلت حتى إلى ما وراء المعقول والمعروف ، إنما الغوض عميقاً في التفاصيل بصبر لا مثيلَ له. ثم ، إلى جانب ذلك وربما قبله .. قدراته العجيبة في التمهيد للأحداث. إنه لا يضع الواقعة أو الحدث أمام القارئ مباشرة بل يُمهد لها تمهيداً منطقياً مُقنعاً قويّاً مُعززاً بالحجج المنطقية التي تجعل قارئه مُستسلماً لما يقول ومؤمناً بما يقول. قلّة من الروائيين والكتاب مّنْ له هذه القدرات التي لا تتوفر إلاّ في كبار الموهوبين. إنه يعرف كيف ومتى يتسلل إلى قلب وعقل القارئ ليسحبه معه إلى حيثُ يُريد. في هذه الرواية الكثير من الخرافات وقد سبق وأنْ عرضتُ نماذجَ منها. بل ويبدو لي أنَّ الرواية أصلاً هي نوعٌ من أنواع القص الخُرافي حيث يمتزج السحر بالخوارق. كما يبدو أنَّ ماركيز قرأ كتاب ألف ليلة وليلة إذْ ذكرَ البساط السحري الطائر ومصباح علاء الدين دون أنْ يذكر علاء الدين [[ .. وقصّة الصيّاد الذي طلب من جاره أنْ يُعيره قطعة رصاص لشبكته وكافأه بعد ذلك بسمكة وجد ماسة في بطنها ، وقصّة المصباح الذي يُلبّي الرغبات والسجاجيد التي تطير / ص 226 ]]. أسلوب هذه الرواية شيّقٌ متين البنيان لا ثغرات فيه ولغة الرواية لغة واضحة لا تعقيد أو عُسرة فيها ومستقيمة بدون تعرّجات وفذلكات. ومن مزايا السيد ماركيز تمكّنه من تصوير الحب والجنس والبورنو بشكل لا أحسبُ أنَّ أحداً من كتاب الرواية يستطيع أنْ يتفوق عليه. بالطبع إنه يكتب بما لديه من تجارب في هذه الميادين. كما أنه بارع في شؤون الحرب وقضايا الصراع الطبقي الذي حصره في النزاع الدموي بين حزب ليبرالي وآخر محافظ.
عندي قناعة أنَّ رواية ماركيز الأخرى " الحب في زمن الكوليرا " (2) أفضل من رواية مائة عام من العُزلة. لستُ بصدد عقد مقارنة تحليلية مُفصّلة بين الروايتين فذلك أمر آخر قد يقومُ به غيري.
(1)
غابرييل غارسيا ماركيز / مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الخامسة 2012.
(2)
غابرييل غارسيا ماركيز / الحب في زمن الكوليرا، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الثالثة 2004 .
هذه خطوة فيها شئ من المجازفة بالنسبة لي ، ذاك أني لأول مرّة أتعرّضُ فيها لإحدى روايات ماركيز الأكثر شُهرة / مائة عام من العُزلة، بل وإنها المرة الأولى التي أعرض فيها قراءتي لرواية كاتب من أمريكا اللاتينية هو غابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي. نعم، إنها مُجازفة لأنَّ هذه الرواية بالغة التعقيد متشابكة في أحداثها كثيرة هي الأسماء التي وردت فيها وكثيرة كذلك أسماء المدن والأماكن والبيوت والطرقات. ثم التنقلات السريعة من واقعة لأخرى ومن حدث لأخر غيره فضلاً عن تشابك ما هو واقعي بما هو فوق الخيال من خوارق وخرافات لا يمكن أنْ تحدث في عالمنا المرئي والمحسوس. فضلاً عن الشذوذ وتجاوز الأعراف والمألوف من عادات وطقوس. ف " خوسيه أركاديو بوينديا " يتزوج أخته ريبيكا بالتبنّي. حين قيل له إنها أختك أجاب : لا يهمني ذلك. وحين قيل له : هذا مخالف للطبيعة والقانون يحضره أجاب : أشخُّ مرتين على الطبيعة / الصفحات 117 و 118 . و أوريليانو خوسيه يغازل ويتبادل القُبل مع عمّته أمارانتا / الصفحات 175 ـ 177 . ثم نرى في نهاية الرواية أنَّ " أوريليانو " يغتصب خالته أمارانتا أورسولا وهي في عصمة زوج بلجيكي ثم يتزوجها بعد ذلك / الصفحات 476 ـ 478 . لكنْ كانت مدينة أو قرية " ماكوندو " قلب ومركز أغلب أحداث الرواية. وغطّت الحرب الأهلية بين اللبراليين والمحافظين في بلد لا نعرف اسمه أجزاء كثيرة من صفحات هذه الرواية [ أثار الكولونيل أوريليانو بوينديا اثنتين وثلاثين إنتفاضة مُسلّحة خسرها جميعاً . وكان لديه سبعة عشر ابناً ذَكَراً من سبع عشرة امرأة مختلفة / ص 129 ]. بعد هذه التوطئة القصيرة والعجلى أعودُ لأشخّصَ أبرز خصائص وعلامات هذه الرواية :
1 ـ الخرافات والخوارق والمعجزات
2 ـ رمز الغجري الساحر ميلكياديس
3 ـ طغيان العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو
4 ـ ماركيز والعرب.
الخرافات والخوارق والمعجزات
تكادُ هذه الرواية أنْ تكون بغالبية أحداثها قصص خوارق وعالم من جن وجنيّات وسياحات في اللامعقول وقوى غيبية مجهولة تُحرّك البشر والصخر وتقرأ المجهول. السؤال : لماذا عمد هذا الروائي الكبير إلى مثل هذه الأساليب وهل كانت ضرورية سواء له ككاتب النص أو للنص المروي ؟ ما كانت مقاصده قبل وبعد كل شئ ؟ بقدر تعلق الأمر بي وعلى قدر فهمي للرواية فإني أستطيع القول بثقة إنَّ هذه الخوارق والمعجزات والخرافات كانت بمجموعها حاجات ووسائل وأساليب ضرورية للكاتب بالدرجة الأولى والأخيرة. وسائل تُلبّي حاجات نفسية وثقافية تضغط عليه بإلحاح فيتخذ من الخرافات واللامعقول والميتافيزيقا أقنعة تارةً وقنوات تصريف تاراتٍ أُخَر. وبصراحة مُبسّطة أقول : ما وجدتها ضرورية لبناء متطلبات النص ولا تأثيرَ لها على شروط ومتطلبات السرد والربط ما بين الحوادث ولم تُضفْ قوة إقناع إضافية يُحس القارئ بها فيزداد إلتصاقاً وشوقاً لمتابعة السرد. يستطيع القارئ الكريم حذف أيٍّ من هذه الخزعبلات ليتأكد أنها لم تكن ضرورية أبداً بل وفي أفضل حالاتها ما كانت إلاّ فضول كلام وهذيان وثرثرة. إذاً هي ضرورية للكاتب وليس للنص. الكاتب بحاجة ماسّة لها لا الكتاب. هل يتوجب علينا الجري وراءه مستجدين تفسيراته ؟ كلاّ ، لا نحن بالمجبرين على الإستجداء منه ولا هو بالمُجبر على الإستجابة والعطاء وتقديم الأجوبة التي نتوقع منه. لنسمع ما قال السيد ماركيز في مقدمة روايته الأخرى الأفضل في نظري والأروع أعني رواية " الحبٌّ في زمن الكوليرا " : [ ... أما ماركيز فإنه يقول في أكثر من مناسبة " الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبحَ فناً ] و [ الغرائبي يأخذني ولا يبقى من الواقع إلاّ أرض القصة ]. وقال في مكان آخر عن مائة عام من العزلة [ إنها تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع. كنتُ أودُّ التعبير عن الإرادة الواعية لا أنْ تعدم الواقع. ولكنْ علينا أنْ نُدركَ أنها لم تصالح الواقع / الصفحة 6].
في كلامه هذا تناقض كبير وإلاّ فكيف تكون الإرادة الواعية غير متصالحة مع الواقع ؟ الإرادة الواعية هي التعبير الحي والأقوى عن الواقع وما الواقع إلاّ إرادة. ثم إنه يعترفُ أنَّ رواية مائة عام من العزلة تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع ! لمن يتجه الكاتب إذا ما هرب من الواقع ؟ أمامه عندئذٍ سبيل واحد منفتح على مصراعيه : الخرافات والخوارق والخزعبلات والإيمان بالسحر وقارئات الورق والكفوف والإيمان بسحر بعض الغجر من أمثال ميلكياديس الذي جعله الكاتب يرافقنا لعقود بعد موته فهو الغائب بالموت والحاضر برغبة الكاتب تطميناً لحاجات نفسية وعقلية يُحسُ هو بها لكنا لا نُحسُّ بها ولا نراها.
أسوق أمثلة ونماذج لهذه الخزعبلات التي لم أقتنعْ قطُّ بها ولا بجدواها ولا بأهميتها للأحداث التي فصّلها الراوي رغم قراءتي المتأنيّة لهذه الرواية الطويلة / 501 صفحة :
[[.. ولم تعدْ أورسولا إلى تذكّر زخم تلك النظرة حتى يوم دخل فيه أوريليانو الصغير المطبخ ، وهو في السن الثالثة من عمره ، في اللحظة التي كانت ترفع قدراً تغلي عن الموقد وتضعها على المائدة فقال
الصغيرُ المُتردد وهو عند الباب : سوف تسقط . كانت القدر ثابتة تماماً في وسط المنضدة لكنها بدأت تتحرك فور إعلان الطفل ذلك ، حركة لا رجوعَ عنها بإتجاه الحافة وكانها مدفوعة بآلية داخلية وتهشّمت على الأرض / الصفحتان 23 و 24 ]]. كما سبق وأنْ قال الروائي ماركيز عن هذا الطفل ما يلي :
[[ ... أما أوريليانو ، أول كائن بشري وُلِدَ في ماكوندو فكان سيبلغ السادسة من عمره في آذار. وكان صامتاً ومنطوياً على نفسه. وقد بكى وهو في بطن أمّه وخرج إلى النور بعينين مفتوحتين. وبينما هم يقطعون له الحبل السُرّي كان يحرّك رأسه من جهة إلى أخرى ليتعرفَ على أشياء الغُرفة ويتفحّص وجوه الناس بفضول ودون دهشة / ص 23 ]]
وكتب عن نفس الطفل هذا ما يلي :
[[ .. ولكنَّ عينيه ، بالمقابل ، صارتا مُجدّداً الجمرتين اللتين أخافتا مَن رأوهُ عند ولادته واللتين كانتا تحرّكان الكراسي بمجرد النظر إليها / الصفحة 294 ]]. ثم كتب عنه وقد كَبُر وغدا الكولونيل أوريليانو بوينديا
[[ وفي صباح أحد الأيام وجد أورسولا ـ والدته ـ تبكي تحت شجرة الكستناء على ركبتي زوجها الميّت / الصفحة 295 ]]. ثم كتب عن أب يحاول البرهنة على أنَّ قدرات الله غير محدودة [[ ... حمل إليه الصبي الذي ساعده في القُدّاس فنجاناً من الشوكولاتة الكثيفة يتصاعد منه البخار فجرعه دون يأخذ نَفَساً. وبعد ذلك مسح شفتيه بمنديل أخرجه من كُمّه ومدَّ ذراعيه وأغمض عينيه وعندئذٍ طفا الأبُ نيكانور مرتفعاً اثني عَشَرَ سنتيمتراً فوق سطح الأرض. كانت وسيلة مُقنعة / الصفحات 104 و 105 ]]. أيُعقل مثل الكلام ؟ أصحيحٌ أنْ يرتفع شخص فوق الأرض بعد تناول فنجان من مشروب الشوكولاتة ؟ أهذا دليل على وجود قوة خارقة لا نعرف ما هي تفعل المستحيل كأنْ تقهر قانون الجاذبية الأرضية فترفع بشراً فوق سطح الأرض ويبقى كذلك مُعلّقاً في الهواء ؟ هل هذا دليل على وجود الرب ؟ هنا بالطبع سخرية واضحة من دعاوى رجل الدين المسيحي الأب نيكانور وبرهانه على وجود الرب. قد نفهم مثل هذا الكلام على أنه نكتة ساخرة مُصممة ضد الدين وضد فكرة وجود إله خالق.
نقرأ في الصفحة 43 أنَّ الغجر جاءوا إلى قرية ماكوندو ببساط طائر كأداة تسلية [ وقد نبش الناسُ الأرضَ ، بالطبع، ليُخرجوا آخرَ نقودهم الذهبية ويستمتعوا بجولة طيران سريعة فوق بيوت القرية / ص 43 ].
ما تفسير هذه الخوارق والظاهرات غير المسبوقة وما أهميتها بالنسبة لسياقات نصوص الرواية ؟ كيف يبكي طفلٌ وهو لم يزل في بطن أُمّه وهل في الإمكان سماع مثل هذا البكاء ؟ نعم ، نتابع حركات الجنين في شهريه الأخيرين في بطن أمه ولكن لا من أحد ادّعى سماع صوت جنين وهو في رحم والدته. المواليد الجُدد يبكون لحظة استنشاقهم الهواء الحر لأول مرة وهذا البكاء ضروري لإنفتاح الرئتين وتدشين عملية التنفس شهيقاً وزفيراً. تكلم الروائي الألماني كونتر هاس في رواية طبل الصفيح عن إنسان تأخر نموه بسبب حادثة سقوط تعرّض لها هذا الإنسان زمن طفولته. وربما لهذا السبب أو لغيره كان في مقدوره أنْ يُحطّم زجاج النوافذ والأبواب إذا ضرب على طبلة معلّقة في رقبته تتدلّى على صدره ورافق هذا الضرب إطلاق صرخات حادّة عالية. واضح مصدر هذه الحكاية .. ففي التوراة مثيل لها يقول إنَّ ... إذا ضرب على طبله وتعالى صُراخه تنهارُ حصون مدينة أريحا .. ! خرافات وأمانٍ لا أكثر. في رواية مائة عام من العزلة غير القليل من أشباه هذه الخزعبلات.
أورسولا هي أم الطفل الخارق أوريليانو.
مثال آخر له طبيعة أخرى مُغايرة وله ما يشابهه في مسرحيات شكسبير وخاصة هاملت ومكبث. أقصد ظهور أشباح القتلى غيلةً. ففي هذه الرواية يقتل رأسُ عائلة آل بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو المدعو خوسيه أركاديو بوينديا .. يقتل شخصاً وجّه له إهانة إتهمه فيها بالعجز الجنسي بطعنه في رقبته برمح. ما الذي حصل بعد مقتل برودينثيو أغيلار ؟
[[ .. وفي ليلة لم تجدْ فيها أورسولا إلى النوم سبيلاً، خرجت إلى الفناء لتشربَ ماءً فرأتْ برودينثيو أغيلار إلى جانب الجرّة. كان شاحباً وبملامح شديدة الحُزن يحاول أنْ يسدَّ بسدادة من أوراق الحلفاء الثقب الذي في حنجرته .. ]] .... [[ وبعد ليلتين من ذلك رأت أورسولا ، مرةً أخرى، برودينثيو أغيلار في الحمّام يغسل بأوراق الحلفاء الدم المتخثّر على عنقه. وفي ليلة أخرى رأته يتمشّى تحت المطر. تضايق خوسيه أركاديو بوينديا من رؤى زوجته وخرج إلى الفناء مُسلّحاً بالرمح. وهناك كان الميّت بملامحه الحزينة فصاح به خوسيه أركاديو بوينديا : إذهبْ إلى الجحيم. فكل مرة تعودُ فيها سأعودُ لقتلك من جديد. لم ينصرفْ برودينثيو أغيلار ولم يجرؤ خوسيه أركاديو على قذفه بالرمح. ومنذ ذلك الحين لم يعدْ يستطيع النوم / ص 33 ]]. رأينا مثل هذه الرؤى في مسرحيات شكسبير فدم الأبرياء المسفوك ظُلماً لا ينفكُّ يؤرّق سافكيه القَتَلة ويؤنب الضمائر ويستصرخ شرف الإنسانية أنْ تهبَّ لأخذ الثأر. أردتُ القول إنَّ هذا الأسلوب قديم ومطروق ولا من جديد فيه.
لكنْ هل هو ضروري للرواية وتتابع أحداثها ؟ ذلكمْ هو السؤال الذي قد نختلف كثيراً حوله.
الغجري الساحر ميلكياديس
قلتُ سابقاً إنَّ الروائي ماركيز كان شديد الحرص على إبقاء هذا الغجري في الرواية بالعرض وبالطول نجده إينما وليّنا متلبساً الأحداث مُخترقاً أنسجة القصص والسرد فما السرُّ في ذلك وما مغزى وأهمية هذا الشبح الذي فارق الحياة منذ أوائل صفحات الرواية ؟ [[ .. وفي ما بعد ذلك ، أكدَّ له غجرٌ آخرون أنَّ ميلكياديس قد مات فعلاً تحت وطأة الحُمّى في كثبان شواطئ سنغافورة ، وأنَّ جثمانه قد أُلقي في أعمق مكان من بحر جاوا / الصفحة 26 ]]. نمضي مع صفحات الرواية لنقرأ في الصفحات 90 ـ 91 ـ 92 أنَّ هذا الرجل ما زال حيّاً لكنه أخيراُ يموت في النهر غَرَقاً ! قُبيلَ موته غرقاً كان يردد عبارات من قبيل [ لقد بلغتُ الخلود ] و [ إننا من ماء ] , [ لقد متُّ بالحُمّى على كثبان شواطئ سنغافورة ]. صحيح أنَّ مؤسس قرية ماكوندو السيد خوزيه أركاديو بوينديا قد تأثّر بشخصية وخوارق الغجري الساحر ميلكياديس وصحيح أنه تعلّم منه سر تركيز أشعة الشمس بواسطة عدسة كما تعلّم منه صنعة الخيمياء / الكيمياء / لأجل مضاعفة الذهب أي زيادة تركيزه .. وقبل ذلك محاولة إستخلاصه من الأرض وما تحتها بالمغناطيس .. كل هذا صحيح لكن الساحر الميت منذ عقود ظلَّ سيّداً لبعض المواقف حتى بعد وفاة مؤسس القرية . جاء ذكره عدّة مرات في الصفحة 498 أي قُبيل ختام الرواية فماذا قيل عنه وما أهمية ذِكْره لعدد من المرات ؟ أنقل ما كتب الروائي عنه ، والكلام عن أوريليانو إبن أخت وزوج أمارنتا أورسولا :
[[ ... لأنه صار يعرف عندئذٍ أنَّ قَدَره مكتوب في رِقاق ميلكيادس. وجدها سليمةً بين النباتات الخرافية والبرك المُدخّنة والحشرات المُضيئة التي أزالت من الغرفة كلَّ أثرٍ لمرور البشر على الأرض ولم يجدْ الهدوء ليُخرجها إلى النور، وإنما هناك بالذات، وهو واقف ودون أدنى صعوبةٍ ، كما لو أنها مكتوبة بالقشتالية، تحت بريق الظهيرة الُمبهِر، بدأ يحلُّ رموزها بصوتٍ عالٍ. كانت تروي تاريخ الأسرة وقد كتبها ملكياديس بأدق التفاصيل وأتفهها، قبل مائة عام من وقوعها؟ لقد كتبها بالسنسكريتية وهي لغته الأم .... أما وسيلة الحماية الأخيرة وكان أوريليانو قد بدأ بتبنيها عندما أسلمَ نفسه لتشوش حب أمرانتا أورسولا فتكمن في أنَّ ميلكيادس لم يوردْ الوقائع مُرتّبة وفق زمن البشر المتعارف عليه وإنما ركّزَ قرناً كاملاً من الأحداث اليومية بحيث تتواجدُ جميعها متعايشة في لحظة واحدة.... / الصفحة 498 ]]. هنا إذاً الجواب الشافي والدقيق عن تساؤلاتي حول الغجري الساحر ميلكيادس. إنه كتب تاريخ أسرة مؤسس قرية ماكوندو والجد الأعلى لعائلة بوينديا السيد " خوسيه أركاديو بوينديا " على مدى قرن كامل من الزمن ولكنْ جعل تفاصيل هذا التاريخ تتعايش في لحظة واحدة. وقد سبق وأنْ كشف أوريليانو بعض رموز الغجري ميلكيادس المكتوبة على بعض الرقاق والتي تقول ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل ) وهذا بالفعل ما قد حصل ، فقد قضّى الجد المؤسس العديد من آواخر سني عمره مربوطاً إلى شجرة كستناء ضخمة هناك كان يجلس ويأكل وينام تحت رعاية زوجه أورسولا. أما آخر السلالة ، وهو نتاج زواج غريب، فقد جفَّ وافترسه من ثم النمل.
ثم نقرأ في آخر سطور هذه الرواية الطويلة ما يلي [[ ... في اللحظة التي ينتهي فيها أوريليانو بوينديا من حلِّ رموز الرِقاق، وأنَّ كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أنْ يتكرر منذ الأزل إلى الأبد، لأنَّ السلالات المحكومة بمائة عام من العُزلة ليست لها فُرصة أخرى على الأرض ]].
هل هي نبوءة ساحر غجري أو أنها واقعة ملموسة أم أنها حقيقة علمية ؟
لقد جاء في الرواية ولعدة مرات ذِكر نبوءات أو تفسيرات نوستراداموس ، فهل ما كتب الساحر الغجري في رقاقه عن تاريخ ومصير عائلة بوينديا كان أحد نبؤات نوستراداموس ؟
العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو
كثُر البغاء والبغايا واتسعت الدعارة وبيوتها مع تطور قرية ماكوندو التدريجي من مجرد قرية صغيرة بائسة إلى مدينة شهدت أولى معالم الحكومة والرأسمالية. ظهر فيها شاب إيطالي يعلم فتيات المدينة أصول الرقص ويبيع إسطوانات الموسيقى ثم يغدو خطيباً لإحدى بنات المؤسس. ثم يأتي القطار ومعه يأتي البريد الأسبوعي منتظماً .. ثم يأتي الكهرباء حتى يبلغ التطور الرأسمالي في هذه المدينة مستويات قريبة من الذروة بتأسيس شركة أصحابها أمريكان لزراعة وتسويق الموز. تأسست مع نشوء هذه الشركة طبقة عمالية بلغ تعدادها أكثر من ثلاثة آلاف عامل.
أصبح النقيصُ يواجه نقيضه : العمال الفقراء أمام الرأسمال. كانت الحكومة المركزية بالطبع مع الرأسمال تحميه وتدافع عنه بكافة الوسائل القانونية وغير القانونية على رأسها قوة الشرطة والسلاح والجيش. مع شركة الموز بدأت إضرابات العمال وبدأ القتل الجماعي للمضربين [[ أنَّ الجيش حاصر ثلاثة آلاف عامل وقتلهم بالرشاشات وحُملت الجثث في قطار من مائتي عَرَبة لتُرمى في البحر / الصفحة 491 .. مثلاً ]]. ثم حلَّ الخراب وأُغلقت الشركة وهرب أصحابها كلٌّ إلى بلده.
هل لهذا التطور الرأسمالي التدريجي علاقة بسعة إنتشار البغاء في مدينة ماكوندو ؟ الجواب كلاّ ، كان البغاء موجوداً خاصة بوجود الغجر الموسمي ، وكان هناك ما دامت كانت هناك بغايا .
ـ من أوائل مومسات قرية موكاندو شابّة اسمها بيلار تيرنيرا [[ كانت ضمن الهجرة التي تُوّجت بتأسيس ماكوندو ، إقتادتها أسرتها لإبعادها عن الرجل الذي اغتصبها وهي في الرابعة عشرة وظلَّ يُحبّها حتى بلوغها الثانية والعشرين لكنه لم يُحسم أمره قط في إعلان علاقتهما أمام الملأ / ص 39 ]]. سقطت تحت أعباء حرمانها ونكبتها بمن أحبّت تحت رحمة قوة إغراء الشاب خوسيه أركاديو إبن أورسولا البِكر فعاشرها وعاشرته حتى فاجأته ذات يو م بالقول [[ أنت الآن رجل بالفعل . ولأنه لم يفهم ما الذي تعنيه فقد أوضحت الأمرَ حَرفاً فحرفاً : سيكونُ لك ابن / ص 44 ]]. بدل أنْ يتزوجَ منها [[ عقد خوسيه أركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47 ]]. في غيبته ورحيله مع الغجر ولدت بيلار تيرنيرا وَلَداً وكان بالطبع ابنَ سِفاح ! أسموه كذلك خوسيه أركاديو.
سنقرأ في الصفحة 79 أنَّ هذه المرأة أنجبت إبنين آخرين من أبوين مجهولين ! وسنعرف أنَّ أورليانو قضّى ليلة وهو تحت حالة سكر شديدة مع هذه المرأة / ص 86 ، ثم تخبره فيما بعدُ أنها قد حملت منه وإنه سيعترف بما حملت ويمنحه اسمه / ص 97 .
منذ هذه اللحظة بدأ نطاق الدعارة بالإتساع وكما يلي :
ـ حانوت كاتارينو
ما كان هذا الحانوت إلاّ نِزلاً أو منزولاً مخصصاً لممارسة الدعارة يُديره رجلٌ اسمه كاتارينو . نقرأ وصفاً أنموذجياً لما كان يدور هناك من سمسرة :
[[ .. ذهبَ أوريليانو ـ إبن أورسولا الثاني ـ إلى حانوت كاتارينو ... وأمام باب في أقصى المكان يدخل ويخرجُ منه بعض الرجال كانت تجلس وتُهوّي بصمت إمرأة الكرسي الهزّاز البدينة. وكان كاتارينو الذي يضع وردةً من اللبّأد على أُذنه يبيعُ القادمين طاساتٍ من عصير قصب السُكّر المُخمّر ويتحينُ الفُرص ليدنو من الرجال ويضعُ يده حيثُ لا ينبغي له أنْ يضعها. في حوالي منتصف الليل صار الحرُّ لا يُطاق. وقد استمع أوريليانو إلى الأخبار حتى نهايتها دون أنْ يجد بينها خبراً يهمُّ أسرته. وكان يتأهبُ للعودة إلى البيت عندما أومأتْ له المرأةُ البدينة بيدها وقالت : أُدخلْ أنتَ أيضاً. لا يُكلّفكَ ذلك إلاّ عشرين سنتافو. ألقى أوريليانو قطعة النقود في الحصّالة التي تضعها البدينة بين ساقيها ودخل الحجرة دون أنْ يدري السبب. كانت المراهقة الخُلاسية بنهديها الشبيهين بضرع كلبة عاريةً على الفراش وكان قد مرَّ على الغرفة قبل أوريليانو في تلك الليلة ثلاثةٌ وستون رجلاً ... / ص 68 ]].
يتكرر ذِكرُ حانوت كاتارينو مِراراً في هذه الرواية لأنَّ مرتاديه كِثارٌ ومن مختلف فئات مجتمع مدينة ماكوندو كباراً ومراهقين عزّاباً ومتزوجين عسكريين ومدنيين. لقد ارتاده أوريليانو مرةً ثانية مع صديقيه / ص 85 . كما ارتاده الكولونيل أركاديو / ص 139 . العجيب أنَّ هذا حاول اغتصابَ أمّهِ بيلار تيرنيرا وما كان يعرف أنها أمُّه. حاول ذلك مراراً فوافقت لكنها خدعته إذْ اتفقت مع فتاة عذراء اسمها صوفيا قديسة الرحمة لقاء أجر سخيٍّ أنْ تلتقيه في الظلام في المكان والزمان المحددين ففوجئ بها وقد عرف أنها امرأة أخرى وطابت له وصارا يمارسان الحب يومياً وبشكل دائم .. و [ٌ[ في الفترة التي عُيّنَ فيها أركاديو قائداً مدنياً و عسكرياً للقرية أنجبا إبنة / ص 141 ]].
هكذا كان مجتمع مدينة ماكوندو وكما وصفه الأب نيكانور رينا [[ .. ذُعرَ من الجدب الروحي لأهالي ماكوندو الذين يزدهرون في الرذيلة مُثبّتين إلى قانون السجيّة دون أنْ يُعمّدوا أبناءَهم أو يقدّسوا أيام الأعياد. فكّرَ أنه ليست هناك بقعة أرض بحاجة إلى بذرة الرب أكثر منها. وقرر البقاءَ أسبوعاً آخرَ ليُنصّرَ المختونين والوثنيين ويُشرّع حالات مساكنة المحظيات / ص 103 ]].
بيترا كوتيس
تمثّلُ هذه المرأة نموذجاً آخرَ لحال مدينة ماكوندو ولوضع النساء بشكل عام فيها حيث المجون المنفلت والقصف واللهو والعبث والجنس المتعدد الأساليب والألوان وسيادة الخرافات واجتماع النقائض حيث الإلحاد والدين فضلاً عمّا دار من حروب أهلية استمرت لبضعة أعوام ثم تمرد عسكري كان قادة الإثنين رجالاً شباباً من عائلة بوينيدا. ما الغريب في قصة هذه السيّدة ؟ كانت أرملة شابة وفي ظرف خاص كانت تضاجع أخوين في وقت واحد ظانّةً أنه واحدٌ نظراً للشبه الكبير بين هذين الأخوين. أُصيب كلاهما بمرض جنسي / زُهري لعله السفلس أو السيلان عالجاه وشفيا منه. هذا الأمر يدل بقوة أنَّ هذه ( السيّدة ) كانت تمارس الجنس مع غير الأخوين. أي أنها كانت هي الأخرى بغيّا. لكنَّ مصيرها في نهاية المطاف انتهى أنْ تكون عشيقة دائمة لأحد هذين الأخوين المدعو أوريليانو الثاني .. أحد أبناء وسليل عائلة بوينيدا. الغريب ، ولا غرابة في القص الخيالي والعجائبي لما كان يدور في مدينة خُرافية قامت مِن وفوق لاشئ ، أنَّ هذه السيّدة الأرملة ظلّت عشيقة للسيد أوريليانو الثاني حتى بعد زواجه بل وكان هذا يُقضّي أياماً وشهوراً معها في بيتها وبعلم زوجه السيّدة فرناندا [[ .. وكانت قناعته تزداد بأنَّ نجمه الطيّب لا علاقةَ له بسلوكه وإنما بتأثير خليلته بيترا كوتيس ، وأنَّ لحُبّها فضيلة قلب نظام الطبيعة . وكان مُقتنعاً بأنَّ هذا هو سبب ثروته إلى حدّ أنه لم يُبعدْ بيترا كوتيس قطّ عن بهائمه وحتى عندما تزوّجَ وأنجب أبناءً واصلَ العيش معها بموافقة زوجته فرناندا / ص 233 ]].
أشكال أخرى للدعارة في مدينة ماكوندو
ـ صبيّات الجوع والدعارة مقابل الطعام
" تُسمسرُ " قوّادة في بيتها على مجموعة من الصبايا صغيرات السن مُدقعات يمارسن البغاء مقابل القليل من الطعام تبيعه القوّادة لهن بما يتقاضين من نقود الزبائن لا أكثر. تبين هذه الصورة مدى الفقر والعَوَز والفاقة التي كانت سائدة في مدينة ماكوندو قبل خرابها وهجرة من هاجر منها وانمحاء أثر عائلة بوينيدا. نقرأ ما كتب ماركيز :
[[ في الأمسية التي ألقى فيها أوريليانو محاضرته عن الصراصير إنتهى النقاش في بيت البنات اللواتي يُضاجعنَ بدافع الجوع ، وهو ماخور وهمي في ضواحي ماكوندو صاحبته قوّادة باسمة ، مُعذّبة بهوس فتح أبواب وإغلاقها ... وما أنْ يتلقين مبلغ البيزو وخمسين سنتافو حتى ينفقنه على رغيف خبز وقطعة جبن تبيعه لهنَّ صاحبة المحل / الصفحات 467 ـ 468 ]].
ما سبب قول الروائي عن هؤلاء الصبايا إنهنَّ محض اختلاق وإنَّ محل الدعارة هذا لا وجودَ له إلاّ في المخيّلة وإنَّ ذلك الطعام ليس حقيقياً / نفس الصفحتين مارتي الذِكْر؟ إنها خرافة مدينة اسمها ماكوندو قامت من العدم وستؤول بعد مائة عام إلى عدم ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل / ص 498 ). كل شئ فيها غير طبيعي وناسها منحرفون يخالفون نواميس وقوانين الطبيعة السوية.
ـ السيّدات الفرنسيات
ورد ذِكْرُ السيدات الفرنسيات أكثرَ من مرّة في رواية ماركيز بنعوت شتى ليس بينها ما يُشيرُ إلى مزاولتهنَّ البِغاء [[ .. والشئ الوحيد الذي تبقّى من تلك المبادرة الفاشلة هو نفحة التجديد التي جلبتها السيّدات الفرنسيات ، فقد بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليب الحب التقليدية وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو العتيق .. / ص 239 ]]. حانوت كاتارينو هو منزول الدعارة الذي سبق ذكره مراراً. هل نفهم من عبارة " وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو " أنهنَّ كذلك مومسات يمارسن البِغاء في دار خاص بهنَّ بطرق وأساليب فرنسية جديدة على عالم مدينة ماكوندو حتى أقفر حانوت كاتارينو وأقفل أبوابه بعد أنْ عرف زبائنه القدامى مزايا وحسنات منزول الفرنسيات ؟ [[ بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليبَ الحب التقليدية / ص 239 ]]. ورد ذِكرهنَّ في الصفحة 273 وفي الصفحة 274 . خلا مرة واحدة فقط أسماهنَّ فيها مومسات [[ المومسات الفرنسيات / الصفحة 393 ]]
ـ نساء وقوّادات بابليات !
ما كان في رأس السيد غابرييل غارسيا ماركيز إذْ ينعت مومسات وقوّادات بأنهنَّ بابليات ؟ إنه لم يزر العراق والعراق في الزمن القديم هو بابل وبابل أكثر من بابل فالأولى كانت بابل المشرّع الأكبر حمورابي ثم بابل نبوخذّنصّر الكلداني ثم بابل اليوم وهي محافظة مركزها مدينة الحلة. هذا عرض شديد الإيجاز لتاريخ بابل يدفعني للتساؤل عن مغزى وهدف كاتب الرواية من نعته للبغايا والقوّادات بإنهنَّ بابليات ؟! قد يقول قائلٌ إنه حرصي وغيرتي على بابل ، بابل العراق وبابل حمورابي ونبوخذّنصّر ثم عراق اليوم البابلي وعاصمته مدينتي ومدينة أهلي وأجدادي : الحلّة. لا أنفي هذا أبداً وكيف أنفيه . لا أنصرف للجزئيات وبعض تفاصيل الحياة وما حصل في العراق لأكثر من نصف قرن من تطاحنات عقائدية ـ سياسية ثم مذهبية وحروب وغزو وحصار طويل ممُضٍّ قاتل ثم احتلال أدّت في بعض منعطفاتها إلى تشويشات وتشويهات وادعاءات يصعب دحضها حول سلوك بعض العراقيات [ البابليات ] خاصة في الكويت ومشايخ الخليج. نرى اليوم نظير ذلك مما تتعرضَّ له حرائر سوريا في بلدان اللجوء تركيا والأردن ولبنان. هل هذا ما قصده السيد ماركيز ؟ لا ، أبداً . إنه جدَّ بعيد عن العراق والخليج .. إنه رجل من كولومبيا في أمريكا اللاتينية ثم إنه ليس سلمان رشدي ! إذاً أية بابل كان قد عنى ؟ عشتار آلهة الجنس والخصب والتناسل ؟ بغايا معابد بابل يمارسن الجنس المقدّس ؟ سمير أميس الملكة التي قيل عنها إنها كانت تعشق حصانها وكانت تمارس الجنس معه ؟ الراجح أنَّ الرجلَ قد قصد بغايا المعابد اللواتي كنَّ يمارسن الجنس للتكاثر مجاناً لوجه الإله مردوخ. أظنَّ أنَّ السيد ماركيز قد شطح وارتكب خطأً لا لزومَ له أبداً. البغاء أقدم مهنة في تاريخ البشرية ومع البغاء تأتي السمسرة والقوادات والقوادون وكان ولم يزل معروفاً ومنتشراً في كافة بقاع العالم فما الذي حدا به إلى حصر هذا الأمر ببابل ولم يذكر أثينا مثلاً أو روما ؟ المهم ... لقد ذكر الرجلُ بابلَ في عددٍ من المناسبات ، قال في الصفحة 278 [[ .. وفي يوم أربعاء مجيد جاؤوا بقطار مُحمّل بمومسات غير معقولات، إناث بابليات بارعات بأساليب عريقة في القدم ومزوّدات بكل أنواع المراهم والأجهزة لإستثارة العاجزين وتنشيط الخجولين وإشباع نهم النهمين وتحفيز المتواضعين وتقويم غير السويين وإصلاح المتوحدين ]].
كما قال في الصفحة 462 ما يلي [[ ... وإنَّ شركة الموز رحلت وإنَّ ماكوندو تنعم أخيراً بالسلام منذ سنوات طويلة. وقاده ذلك التجوال إلى حي التسامح المتردي حيث كانت تُحرقُ في أزمنة أخرى رزم من الأوراق النقدية لتنشيط رقصات الكومبيامبا ، وتحوّلَ آنئذٍ إلى متاهة شوارع أشدّ كآبةً وبؤساً من الشوارع الأخرى ، مع بعض القناديل الحمراء التي لا تزالُ مُضاءةً فيه، وقاعات رقص مُقفرة مُزيّنة ببقايا أكاليل زهرٍ حيث أراملُ لا أحدَ الحزيناتُ والبديناتُ والجدّات الفرنسيات والقوّادات البابليات ، يواصلنَ الإنتظار إلى جوار الفونوغرافات ]]. كانت شركة الموز رمزاً لنشوء وتطور الرأسمالية في مدينة ماكوندو حيث حصل التضاد والتصادم الأعظم بينها وبين العمال ووقع إثرَ ذلك ما وقع من مقتل ثلاثة آلاف عامل من عمال هذه الشركة.
أما القناديل الحمراء فإنه رمزٌ معروف في مدن الغرب وأمريكا توضع أمام بيوت الدعارة لإرشاد وقيادة الزبائن إليها. كما توضع في البيوت الخاصة أمام حجرات السيّدات ليلاً في ساعات ممارسة الحب ـ الجنس مع عشّاقهن والرجال مع صديقاتهم .
إستفزني ذكرُ بابلَ وأنا بابلي ! يا ماركيز / حذارِ ... إبتعد عن بابل . تجنّب نيران بابل وغضب عشتار ومردوخ.
ماركيز والعرب
أخيراً ، هل كان السيد ماركيز ضد العرب في روايته هذه ؟ يصعب البت في هذا الأمر. ذكرَ العرب في مواضع شتّى تبدو لأول وهلة محايدة لا لونَ ولا طعمَ لها لكني ... نعم لكني ... أظنُّ ، وبعض الظن إثمٌ ، أنَّ فيها رائحة مشبوهة لكنها خجولة حَذِرة لأسباب معروفة. ذكر العربَ بأوصاف لا تُشرّفُ أحداً من العرب وخلطهم بالترك إذْ أطلق على شارعهم اسم شارع التُرك ! لا أتدخلُّ فيما قال لكني أكتب حرفياً ما قال عنهم وأترك الحكم للقرّاء الكرام.
[[ .. كانت ماكوندو آخذة بالتبدّل فالناس الذين جاؤوا مع أورسولا اكتشفوا جودة أرضها وموقعها الممتاز بالنسبة لمنطقة المستنقعات، وسرعانَ ما تحوّلتْ الضيعة التي كانت صغيرة ومتواضعة في أزمنة أخرى إلى قرية تعجُّ بالنشاط. فيها متاجر وورش حِرفية وطريق تجاري دائم جاء عَبْرَه أولُّ العربِ الذين ينتعلون البابوجات ويُعلّقون الأقراطَ في آذانهم ليقايضوا عقوداً من الزجاج ببغاوات / الصفحتان 51 ـ 52 ]].
هل كان العربُ الأوائل يضعون أقراطاً في آذانهم ؟ ذلك ما لا أعرفه وما لم أسمعْ به. غير أنَّ أمراً أفرحني ذاك أنَّ هؤلاء العرب الأوائل ما كانوا يمشون حُفاة الأقدام بل كانوا [[ ينتعلون البابوجات ]]. هذا أول ذِكْرٍ للعرب في هذه الرواية.
في الصفحة التالية 53 جاء ذكرُ العرب كما يلي :
[[ .. فرضَ خوسيه أركاديو بوينديا خلال وقت قصير حالة من النظام والعمل لم يسمحْ فيها إلاّ بتصريحٍ وحيد : إطلاق سراح الطيور التي كانت مُنذُ تأسيس ماكوندو تبعثُ المرح في الجو بألحانها، واستبدالها بساعات موسيقية في كل البيوت وهي ساعات جميلة من الخشب المشغول بمهارة، كان العربُ يبادلونها بالببغاوات .. / ص 53 ]]. العربُ إذاً تجّار يُقدّرون أهمية وقيمة الطيور ولا سيّما طيور الببغاء الزاهية في ألوانها والعجيبة في قدرتها على نطق بعض الكلمات البسيطة.
ما قال ماركيز أيضاً عن العرب ؟ قال في الصفحة 73 عنهم ما يلي :
[[ كان دون أبولينار موسكوتي الحاكم قد وصلَ إلى ماكوندو دون ضجّة ونزلَ في فندق يعقوب الذي أقامه أحدُ أول العرب الذين جاؤوا يقايضون بضائعهم التافهة بالببغاوات ]]. كما ورد ذِكْرُ العرب في الصفحة 400 كما يلي [[ .. وكان شارع الأتراك قد عاد مُجدداً إلى ما كان عليه، شارع الأزمنة التي كان فيها العربُ ذوو الأخفاف والأقراط في آذانهم يجوبون العالم مُستبدلين بضائعهم الرخيصة بالببغاوات ]]. غير أنَّ الروائي ماركيز مدح العربَ مرتين ، نقرأ ما قال عنهم في الأولى [[ .... لكنَّ عربَ الجيل الثالث كانوا جالسين في المكان نفسه والوضع نفسه الذي جلس فيه آباؤهم وأجدادُهم صامتين، رابطي الجأش، عصيين على الزمن والكارثة، مُفعمين بالحياة أو الموت مثلما كانوا بعد وباء الأرق وحروب الكولونيل أوريليانو بوينديا الإثنتين والثلاثين. وكانت تُثير الذهولَ متانة معنوياتهم أمام أنقاض مناضد اللعب وعربات المأكولات المقلية وأكشاك الرماية على الهدف / ص 401 ]]. وقال في المرة الثانية عنهم [[ ... ربما كانت بيترا كوتيس هي الوطنية الوحيدة التي لها قلب عربي. فقد رأتْ وقائعَ الدمار الأخيرة في حظائرها وإسطبلاّتها التي جرفتها العاصفة ولكنها تمكّنت من إبقاء البيت مُنتصباً / ص 401 ]]. هل رأى ماركيز عرباً في جمهورية كولومبيا يضعون في آذانهم أقراطاً وينتعلون بابوجات ويقايضون بضاعة رخيصة بطيور الببغاء ؟ جميل منه أنْ يعترف لهم بالصمود أمام الكوارث وبفضيلة متانة المعنويات. لا أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في كولومبيا لذا ليس في الوسع مناقشة ماركيز أو محاججته أو دحض ادعاءاته حول ما قال في العرب. لماذا يُسمّي الشارع الخاص بهم شارع التُرك ؟ بالمناسبة ... في مدينة ميونيخ الألمانية شارع حيوي معروف يحمل اسم شارع التُرك
Türkenstrasse
كما أنَّ في فنلندا مدينة كبيرة شهيرة اسمها توركو !
خلاصة إستعراضية سريعة :
يستطيعُ أيُّ قارئٍ لرواية مائة عام من العزلة أنْ يقولَ عنها إنها استعراض مُفصّل لتاريخ عائلة خوسيه أركاديو بوينديا ، رأس عائلة بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو التي تطورت فغدت مدينة ثم درست بفعل عوامل كثيرة فصّلها الراوي بدقّة. نظرة عجلى على شخوص هذه العائلة تترك لدينا الإنطباع القوي أنَّ جميعَ أفراد هذه العائلة بكافة أجيالها المتعاقبة ( مع إستثناءات قليلة ) هم ليسوا أسوياء حسب القواعد المعروفة للجنس البشري. فهم بين مجنون أو شاذ جانح أو منحرف عقلاً وسلوكاً. أستعرضهم واحداً واحداً :
الرأس والمؤسس خوسيه أركاديو بوينديا / كان بفطرته ضد أي شكل من أشكال الحكومة وكان شعوره وقراره أنه هو سيّد وحاكم ومؤسس مدينة ماكوندو. لم يُخفِ ذلك أبداً فقد قال للحاكم الذي أرسلته الحكومة المركزية بصريح العبارة [ أنتَ وأنا سنبقى عدوين / ص 76 ].
ـ إنصرف إلى المقامرة بصراع الديّكة
ـ قتل شخصاً وجّه له إهانة بطعنة رمح قاتلة
ـ مضى عام على زواجه دون أنْ يستطيع ممارسة حقوقه الزوجية مع زوجه أورسولا إلاّ في اليوم الذي قتل فيه غريمه إذْ ( دخلَ خوسيه أركاديو بوينديا إلى غرفة النوم حين كانت امرأته تقوم بارتداء بنطال العفّة فأمرها وهو يهزُّ الرمحَ في مواجهتها " إخلعي هذا " ولم يخامر الشكُّ أورسولا في تصميم زوجها / ص 32 ). [[ .. وانطلقت الشائعة بأنَّ أورسولا ما زالت عذراء بعد سنة من زواجها لأنَّ زوجها عِنّين / ص 31 ]].
ـ شغل نفسه في محاولات لصنع أو إستخلاص أو تركيز الذهب / إذا لم تخشَ اللهَ فاخشَ المعادن .. هذا ما قال لإبنه أوريليانو .
ـ إنتهى أمره إلى مصير غريب إذْ دأب على قضاء وقته جالساً أو نائماً تحت شجرة كستناء بل ومن ثمَّ ربطوه بحبل إلى جذع هذه الشجرة.
ولده البِكر خوسيه أركاديو /
ـ عاشر امرأة تُدعى بيلار تيرنيرا ثم تركها ليلتحق بالغجر [[ كان يوم خميس وفي ليلة السبت عقد خوسيه اركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47 ]]. أنجبت منه في غيابه طفلاً كفله جده وجدته وأسموه خوسيه أركاديو لكنهم بسّطوا الإسم فصاروا ينادونه أركاديو. هذا إذاً إبنُ سفاح.
ـ تزوج من ريبيكا، أخته بالتبني. وهذه لم تترك عاداتها القديمة زمن طفولتها إذْ بقيت تمصُّ اصبعها وتأكل الطين والتراب وتحتفظ في كيس عظام أبيها الراحل.
الإبن الثاني الأصغر هو أوريليانو / تزوّج الطفلة ريميديوس، إبنة الحاكم الصغرى. خطبها حين كانت ما زالت ( تبول في فراشها ) ... وتزوّجها لدى ظهور أولى علامات بلوغها. كان فارق العمر بينهما كبيراً. ماتت ريميديوس وهي حامل مسمومة عن طريق الخطأ فالسم كان أصلاً مُعدّاً لغيرها ، لريبيكا فسلمت هذه وماتت تلك.
ـ إنضمّ إلى صفوف الثوّار اللبراليين ضد الحكومة وحزب المحافظين وصار يُسمّى الكولونيل اوريليانو بوينديا . [[ أثار اثنتين وثلاثين انتفاضة مُسلّحة خسرها جميعها . وكان لديه سبعة عشرَ ابناً ذكراً من سبع عشرة امرأة مُختلفة أُبيدوا واحداً بعد الآخر في ليلة واحدة قبل أنْ يُكمل أكبرهم خمساً وثلاثين سنة / ص 129 ]].
ـ [[ رفضَ المعاش التقاعدي مدى الحياة بعد أنْ انتهت الحربُ وعاش حتى الشيخوخة من الأسماك الذهبية الصغيرة التي يصنعها في مشغله في ماكوندو / ص 129 ]].
أمارانتا .. الإبنة الوحيدة لأورسولا وخوسيه أركاديو بوينديا / أمارانتا أكثر أفراد هذه العائلة شذوذاً .
ـ أحبّت خطيب أختها الإيطالي وكان قرارها الأكيد أنْ تحول دون زواجهما [[ .. لكنها عاهدتْ نفسها بأنَّ ريبيكا لن تتزوج إلاّ بالمرور على جثّتها / ص 89 ]]
ـ حاولت قتل أختها المُتبناة، ريبيكا ، بالسم لكنَّ السم أخطأ طريقه فصار من نصيب ريميديوس الجميلة زوج شقيقها أوريليانو خوسيه.
ـ أحرقت كفها ثم لفّته بكمّادات سود لازمت كفّها طوال حياتها.
ـ رفضت عروض الزواج وبقيت عزباء حتى آخر العمر.
ـ شرعت لفترة بمغازلة ابن أخيها وبادلته القُبل بل وكانا يتحممان عاريين معاً. يبدو أنَّ ابن أخيها كان عازماً إما على ممارسة الجنس معها أو الزواج منها. سأل مرةً [[ هل يُمكن للمرء أنْ يتزوجَ من عمّته ؟ فأجابه أحد الجنود : ليس ممكناً فحسب، بل إننا نخوضُ هذه الحرب ضد الخوارنة كي يستطيع أحدنا الزواج من أُمّه نفسها / ص 184 ]].
[[ كانت تقولُ له وهي مُحاصرة بكلاب صيده : أنت وحش. ليس صحيحاً أنه يُمكن عملَ هذا مع عمّة مسكينة إلاّ بالحصول على موافقة خاصة من البابا . فيعدها أوريليانو خوسيه بأنْ يذهبَ إلى روما ويعدها بأنْ يجتازَ أوربا زاحفاً على ركبتيه وأنْ يُقبّلَ خُفَّ الحِبر الأعظم لمجرّد أنْ تُنزل هي جسورها المُعلّقة / 184 ـ 185 ]].
رأي أخير
لا يشكُّ أحدٌ في قدرات الروائي غابرييل غارسيا ماركيز الكتابية وعلى رأس هذه القُدرات ، لا الخيال الجموح المُنفلت حتى إلى ما وراء المعقول والمعروف ، إنما الغوض عميقاً في التفاصيل بصبر لا مثيلَ له. ثم ، إلى جانب ذلك وربما قبله .. قدراته العجيبة في التمهيد للأحداث. إنه لا يضع الواقعة أو الحدث أمام القارئ مباشرة بل يُمهد لها تمهيداً منطقياً مُقنعاً قويّاً مُعززاً بالحجج المنطقية التي تجعل قارئه مُستسلماً لما يقول ومؤمناً بما يقول. قلّة من الروائيين والكتاب مّنْ له هذه القدرات التي لا تتوفر إلاّ في كبار الموهوبين. إنه يعرف كيف ومتى يتسلل إلى قلب وعقل القارئ ليسحبه معه إلى حيثُ يُريد. في هذه الرواية الكثير من الخرافات وقد سبق وأنْ عرضتُ نماذجَ منها. بل ويبدو لي أنَّ الرواية أصلاً هي نوعٌ من أنواع القص الخُرافي حيث يمتزج السحر بالخوارق. كما يبدو أنَّ ماركيز قرأ كتاب ألف ليلة وليلة إذْ ذكرَ البساط السحري الطائر ومصباح علاء الدين دون أنْ يذكر علاء الدين [[ .. وقصّة الصيّاد الذي طلب من جاره أنْ يُعيره قطعة رصاص لشبكته وكافأه بعد ذلك بسمكة وجد ماسة في بطنها ، وقصّة المصباح الذي يُلبّي الرغبات والسجاجيد التي تطير / ص 226 ]]. أسلوب هذه الرواية شيّقٌ متين البنيان لا ثغرات فيه ولغة الرواية لغة واضحة لا تعقيد أو عُسرة فيها ومستقيمة بدون تعرّجات وفذلكات. ومن مزايا السيد ماركيز تمكّنه من تصوير الحب والجنس والبورنو بشكل لا أحسبُ أنَّ أحداً من كتاب الرواية يستطيع أنْ يتفوق عليه. بالطبع إنه يكتب بما لديه من تجارب في هذه الميادين. كما أنه بارع في شؤون الحرب وقضايا الصراع الطبقي الذي حصره في النزاع الدموي بين حزب ليبرالي وآخر محافظ.
عندي قناعة أنَّ رواية ماركيز الأخرى " الحب في زمن الكوليرا " (2) أفضل من رواية مائة عام من العُزلة. لستُ بصدد عقد مقارنة تحليلية مُفصّلة بين الروايتين فذلك أمر آخر قد يقومُ به غيري.
(1)
غابرييل غارسيا ماركيز / مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الخامسة 2012.
(2)
غابرييل غارسيا ماركيز / الحب في زمن الكوليرا، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الثالثة 2004 .
0 comments:
إرسال تعليق