المقدمة :
تعقيباً على تعليقات بعض الأخوة الكرام على الحلقة الأولى، ولتعميم الفائدة لمن يهمه صياغة الأنغام ، أو معرفة كنه الشعر من الأنام ،ودقة اللغة في كيفية نطق الكلام ، سنذكر هذه المسائل الطارئة من ضرورات الشعر ، ونميل لبعض السائرة ، ونتوسع قليلاً في مساحة الإجابة عن الأسئلة الفائتة، و نقول :
مررنا في الحلقة السابقة بلمحة خاطفة على سيبويه وكتابه ، وابن فارس وشرطه بعدم الإخلال في إعراب الشعر، وذكرنا أنّ السيرافي جعل ضرورات الشعرعلى تسعة أوجه ، نعددها الآن " وهي : الزيادة والنقصان والحذف والتقديم والتأخير والإبدال، وتغيير وجهٍ من الإعراب إلى وجهٍ آخر على طريق التشبيه، وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث " (13)والزمخشري حسبها عشر ، وعدّها في في البيتين التاليين :
ضرورة الشعر عشرٌ عدّ جملتها *** قطعٌ ووصلٌ وتخفيفٌ وتشديدُ
مدّ ٌ وقصرٌ وإسكانٌ وتحركة ٌ ***** ومنعُ صرفٍ وصرفٌ تم ّ تعديدُ
ولكن هذا التحديد لم يكن مقنعاً لابن عصفور ، ولغيره من علماء اللغة ، فبقى مصطلح الضرورة غامضاً بعض الشيء ، إذ يخضع لاعتبارات العالم اللغوي واجتهادة وشواهده ؛ لذا فإن قولهم : "الضرورة الشعرية هي : ما لم يرد إلا في الشعر سواء كان للشاعر فيه مندوحة أم لا ". هو قول ذو وجه واحد لا يراعي اجتهاداتهم ومواقفهم كلها , وإلا كيف فسروا قول الفرزدق (ت 114 هـ) :
ما أنت بالحكم ( الترضى ) حكومتُه *** ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ
على أنه قد دخل من غير باب الاضطرار ، وإنّما من باب الأختيار، حين أدخل الألف واللام على المضارع ؟ وهل كان في نيّة الفرزدق البصري أن يجمع البصريين والكوفيين في جواز إدخالها , ويطلب منهم مزيداً من الحرية النحوية (14)، وسنأتي على تحليل الأمر ، لأن الأمر ما هكذا ...!! .
يقول ابن جني (ت 392 هـ ) في (خصائصه) :" اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران : زَيْغ الإعراب وقُبْح الزحاف فإنّ الجفاةَ الفصحاءَ لا يَحْفلون بقُبح الزّحاف إذا أدى إلى صحّة الإعراب ... فإن أمنتَ كَسْر البيت اجتنبتَ ضَعْفَ الإعراب وإن أشفقتَ من كسره ألبتَّة دخلتَ تحت كسر الإعراب . " (15)
وإليك هذه المسائل النحوية التي يلجأ إليها الشعراء ضرورة ، ولا يجوز أن تأتي بالكلام ( والترقيم بعد المد والقصر والإشباع والإختلاس مما ورد في الحلقة الأولى) :
5 - قال الشاعر عبيد الله بن زياد بن سميّة من (الرمل) :
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا *** وكريمٍ بخله قد وضَعَهْ (16)
كما ترى قد فصل الشاعر بين المضاف (كم) ، والمضاف إليه (مقرفٍ) بالجار والمجرور (بجودٍ ) ، وهذا لا يجوز بالنثر ، فهو ضرورة شعرية نحوية لاستقامة الوزن ، فلا يحقُّ لنا مثلا أن نقول له : لماذا لا تشكل صدر البيت كالآتي لتتخلص من الضرورة : (كم قبيحٍ جودهُ نال العلا) ؟!! ببساطة الشاعر لحظة الإبداع تأتي القصيدة حسب إلهامه ، وذخيرته الثقافية في عقليه الباطن والظاهر .
ويذكر كاتب هذه السطور في كتابه ( نشأة النحو...) : ووافق الأخفش الأوسط البصري الكوفيين في إجازته الفصل بين المضاف والمضاف إليه ، وأورد ابن يعيش في (مفصله) هذا الشاهد :
فزججتها بمزجةٍ *** زجَّ القلوصَ أبي مزادهْ
المصدر (زجّ) مضاف ، (أبي مزاده) مضاف إليه ، والفاصل بينهما المفعول به (القلوصَ) ، وذلك ضعيف جداً ، إذ لا يجيز البصريون إلا الفصل بظرف ، ولكن المتنبي سار على مذهب قومه الكوفيين ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به (الرياضَ) في بيته :
حملتُ إليه من لساني حديقةً *** سقاها الحجى سقيَ الرياضَ السحائبِ (17)
ربما تجد الأمر غريباً ، ولكن هذا المتنبي ، ويعني (سقاها الحجى سقيَ السحائبِ الرياضَ )
6 - والفرزدق يُدخل (الـ ) على الفعل المضارع في بيته :
ما أنتَ بالحكمِ التُرضى حكومته *** ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ
هذا الفرزدق الزاهي بموهبته، والمتماهي بأصالته ،وأروم عراقته ، لا يبالي باللغويين والنحويين ، ويقول : علي ّأن أقول ، وعليكم أنْ تحتجوا بشعري ، فذهب هؤلاء العلماء من بعده
منقسمين بين من يرى الأمر ضرورة في لحظة النظم ، وبين من يحكم بالاختيار ، لأنهم يقولون ببساطة ، كان يمكنه ، أن يبدل بـ (التُرضى) (المرضي) ، وينتهي الإشكال !!
ولكن يذكر كاتب هذه السطور في كتابه (نشأة النحو ...) أنّ الكوفيين كانوا يعدون الألف واللام من الأسماء الموصولة بمعنى الذي ، التي ، الذين ، اللواتي ... ، لذلك كان يقول الفرزدق علي أن أقول ، وعليكم أن تحتجوا ، ولا أعرف كيف فات الأمر على بعض علفماء اللغة ، وقالوا كان بإمكانه أن يقول : ( المرضي) ، والحقيقة كان يريد أنْ يقول (الذي تُرضى حكومته ) !! ، وخذْ شاهداً أخر :
من القوم (الرسول) الله منهم *** لهم دانتْ رقاب بني معدِّ
أي بمعنى (من القوم الذين رسول الله منهم) ، وتمتع بمثال ثالث :
مَنْ لا يزال شاكراً على (المعه) *** فهو حر بعيشةٍ ذات سعه (18)
بمعنى ( على الذي معه) ، وقد أجاز ابن مالك في (ألفيته) هذه (الـ) الموصولة ، بقوله :
وصفةٌ صريحةٌ صلة الْ *** وكونها بمعرب الأفعال قلْ (19)
هل اقتنعت أنّ الألف واللام كانت تعني الأسماء الموصولة ، أم لا ؟ فلماذا ذهب هؤلاء يشرقون ويغربون ولا يشيرون ولا يبحثون ؟!!
7 - وقد فصل هذا الفرزدق بين (ما ) و(زال) في الفعل الماضي الناقص (ما زال) بـ (إنْ) - والرجل يحتج بشعره - وذلك في قوله :
رأيتُ تَباشيرَ العُقوقِ هي الَّتي *** مِنِ ابنِ امرِئٍ ما إن يَزالُ يُعاتِبُه
وأبو تمام لم يسمع هذا من العرب ، ولكن لمّا وجد العرب يأتون بـ ( إنْ) بعد (ما) النافية ، قاس الأمر على (مازال ) ، وأدخلها في عدة مواقع من شعره ، وإليك هذا البيت :
وَما إن زالَ في جَرمِ بنِ عَمرٍو *** كَريمٌ مِن بَني عَبدِ الكَريمِ
وسار على هذا النهج شعراء عصره كأبي نؤاس والبحتري وابن الرومي ، بل أورد ابن هشام أحد شواهده ، يتضمن مثل هذه الـ (إنْ) المحشورة (20) .
8 - وقد ذكرت في كتابي (نشأة النحو ..)، قد أجاز الكوفيون إظهار (أن) بعد (كي) كقول الشاعر :
أردتُ لكيما أنْ تطير بقربتي *** فتتركها شنّاً ببيداءِ بلقعِ
وأجازوا أيضاً دخول اللام في خبر (لكن) ، كقول الشاعر : ( ولكنني من حبّها لعميدُ) ، والمتنبي يحذف (أنْ) الناصبة للفعل المضارع ، ويفعلها في بيته :
وقبل يرى من جوده ما رأيتهُ *** ويسمعَ فيهِ ما سمعت من العذلِ (21)
وأراد ( أنْ يرى) .
9 - وقد يؤنث الشاعر الفعل مع المذكر كقول جرير يهجو ابن جرموز:
لما أتى خبر الزبير تواضعت*** سور المدينة والجبال الخشَّع
فأتى الشاعر بـ (سور) ، بعد فعل ألحقتْ به تاء التأنيث الساكنة ، ويعلل ابن منظور في (لسانه) ، لأن السور جزء من المدينة ، فكأنه قال : تواضعت المدينة !! (22)
وقد يحدث العكس تذكير ما يوجب تأنيثه ، ففي البيت الآتي (رؤية معين) ، والحق ( رؤية معينة) :
رؤية الفكر ما يؤل له الأمر *** معينٌ على اجتناب التواني
و يعلل السيوطي في (همع هوامعه) : قد يكتسب المضاف من المضاف إليه تأنيثا وتذكيرا إن صح حذفه ولم يختل الكلام به وكان بعضا من المضاف إليه أو كبعض منه كقولهم قطعت بعض أصابعه ، وقول الشاعر : ( كما شرقت صدر القناة من الدم ) (23)
10- لا يجيز النحويون أنْ تأتي (أن) بين (كاد) و(يفعل) ، وإنما تقول العرب (كاد يفعل)، هذا في الكلام ، ولكن في الشعر تأتي ضرورة ، قال ابن الأعرابي-الرجز :
يكاد لولا سيره أن يملصا *** جدبه الكصيص ثم كصكصا (24)
لولا الضرورة الشعرية ، لقال المتكلم ( يكاد لولا سيره يملصا ) .
11 - ويورد كاتب هذه السطور في (نشأته ...) ، أجاز المازني وهو شيخ البصريين دخول الباء على الفاعل ، وهذا شاذ ، بمعنى أنه ساير الكوفيين ، في البيت الآتي :
إذا لاقيتِ قوماً فاسأليهم *** كفى قوماً بصاحبهم خبيرا
وهذا من المقلوب ، ومعناه ( كفى بقوم خبيراً صاحبهم ، فجعل الباء في ( الصاحب ) ، وموضعها (القوم) ، ، وفي القران الكريم شاهد ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، ، والتقدير - والله الأعلم - (ولا تلقوا أيديكم) . (25)
12 - أجاز المبرد شيخ البصريين - قياساً - دخول (حتى) العاطفة على الضمائر :
وأكفيه ما يخشى وأعطيه سؤلهُ *** وألحقه بالقوم حتّاه لاحقُ
ويعقب عبد القادر البغدادي في (خزانته) "على أن المبرد زعم أن حتى هنا جرت الضمير. وليس كذلك، وإنما حتى هنا ابتدائية، والضمير أصله هو، فحذف الواو ضرورة " (26)
وقول الآخر (الوافر) :
فلا والله لا يلقي أناسٌ *** فتىً حتّاك يا بن أبي يزيد
ويعقب البغدادي نفسه " على أن المبرد تمسك به على أن حتى تجر الضمير ، وأجاب الشارح المحقق بأنه شاذ. والأحسن أن يقول ضرورة، فإنه لم يرد في كلام منثور " (27)
تعقيباً على تعليقات بعض الأخوة الكرام على الحلقة الأولى، ولتعميم الفائدة لمن يهمه صياغة الأنغام ، أو معرفة كنه الشعر من الأنام ،ودقة اللغة في كيفية نطق الكلام ، سنذكر هذه المسائل الطارئة من ضرورات الشعر ، ونميل لبعض السائرة ، ونتوسع قليلاً في مساحة الإجابة عن الأسئلة الفائتة، و نقول :
إنّ الضرورات الشعرية قد يلجأ إليها الشاعر سواء كان له فيها مندوحة أم لا ، ولم يشترطوا في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره، بل جوّزوا له في الشعر ما لم يجز في الكلام؛ لأنه موضع قد أُلفت فيه الضرائر. وهذا رأي أبي الفتح عثمان بن جني (ت 392 هـ /1002 م) ، وجمهور النحويين (11) ، أي لا يسأل الشاعر ، ولا يؤاخذ على لجوئه للضرورة ،لأنها تولد في لحظات الإبداع والإلهام ، إلا بما يؤاخذ على شعره بشكل عام من حيث التشكيل السليم البليغ ، والمضمون السامي الرفيع ، وهذا الأمر تعارف عليه الشعراء ، والأدباء ، وعلماء اللغة ، والنحويون ، والنقاد من عصور الاحتجاج حتى أزمنة المولدين وإلى أيامنا المعاصرة
ينقل الزمخشري في (ربيع أبراره ) عن الخليل بن أحمد الفراهيدي قوله : " الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا، وجاز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تسهيل اللفظ وتعقيده، ومد مقصوره وقصر محدوده، والجمع بين لغاته، والتوصيف بين صلاته، واستخراج ما كلت الألسن عن نعته، والأذهان عن فهمه. يبعدون القريب، ويقربون البعيد، يحتج بهم ولا يحتج عليهم . " (12) .مررنا في الحلقة السابقة بلمحة خاطفة على سيبويه وكتابه ، وابن فارس وشرطه بعدم الإخلال في إعراب الشعر، وذكرنا أنّ السيرافي جعل ضرورات الشعرعلى تسعة أوجه ، نعددها الآن " وهي : الزيادة والنقصان والحذف والتقديم والتأخير والإبدال، وتغيير وجهٍ من الإعراب إلى وجهٍ آخر على طريق التشبيه، وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث " (13)والزمخشري حسبها عشر ، وعدّها في في البيتين التاليين :
ضرورة الشعر عشرٌ عدّ جملتها *** قطعٌ ووصلٌ وتخفيفٌ وتشديدُ
مدّ ٌ وقصرٌ وإسكانٌ وتحركة ٌ ***** ومنعُ صرفٍ وصرفٌ تم ّ تعديدُ
ولكن هذا التحديد لم يكن مقنعاً لابن عصفور ، ولغيره من علماء اللغة ، فبقى مصطلح الضرورة غامضاً بعض الشيء ، إذ يخضع لاعتبارات العالم اللغوي واجتهادة وشواهده ؛ لذا فإن قولهم : "الضرورة الشعرية هي : ما لم يرد إلا في الشعر سواء كان للشاعر فيه مندوحة أم لا ". هو قول ذو وجه واحد لا يراعي اجتهاداتهم ومواقفهم كلها , وإلا كيف فسروا قول الفرزدق (ت 114 هـ) :
ما أنت بالحكم ( الترضى ) حكومتُه *** ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ
على أنه قد دخل من غير باب الاضطرار ، وإنّما من باب الأختيار، حين أدخل الألف واللام على المضارع ؟ وهل كان في نيّة الفرزدق البصري أن يجمع البصريين والكوفيين في جواز إدخالها , ويطلب منهم مزيداً من الحرية النحوية (14)، وسنأتي على تحليل الأمر ، لأن الأمر ما هكذا ...!! .
يقول ابن جني (ت 392 هـ ) في (خصائصه) :" اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران : زَيْغ الإعراب وقُبْح الزحاف فإنّ الجفاةَ الفصحاءَ لا يَحْفلون بقُبح الزّحاف إذا أدى إلى صحّة الإعراب ... فإن أمنتَ كَسْر البيت اجتنبتَ ضَعْفَ الإعراب وإن أشفقتَ من كسره ألبتَّة دخلتَ تحت كسر الإعراب . " (15)
وإليك هذه المسائل النحوية التي يلجأ إليها الشعراء ضرورة ، ولا يجوز أن تأتي بالكلام ( والترقيم بعد المد والقصر والإشباع والإختلاس مما ورد في الحلقة الأولى) :
5 - قال الشاعر عبيد الله بن زياد بن سميّة من (الرمل) :
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا *** وكريمٍ بخله قد وضَعَهْ (16)
كما ترى قد فصل الشاعر بين المضاف (كم) ، والمضاف إليه (مقرفٍ) بالجار والمجرور (بجودٍ ) ، وهذا لا يجوز بالنثر ، فهو ضرورة شعرية نحوية لاستقامة الوزن ، فلا يحقُّ لنا مثلا أن نقول له : لماذا لا تشكل صدر البيت كالآتي لتتخلص من الضرورة : (كم قبيحٍ جودهُ نال العلا) ؟!! ببساطة الشاعر لحظة الإبداع تأتي القصيدة حسب إلهامه ، وذخيرته الثقافية في عقليه الباطن والظاهر .
ويذكر كاتب هذه السطور في كتابه ( نشأة النحو...) : ووافق الأخفش الأوسط البصري الكوفيين في إجازته الفصل بين المضاف والمضاف إليه ، وأورد ابن يعيش في (مفصله) هذا الشاهد :
فزججتها بمزجةٍ *** زجَّ القلوصَ أبي مزادهْ
المصدر (زجّ) مضاف ، (أبي مزاده) مضاف إليه ، والفاصل بينهما المفعول به (القلوصَ) ، وذلك ضعيف جداً ، إذ لا يجيز البصريون إلا الفصل بظرف ، ولكن المتنبي سار على مذهب قومه الكوفيين ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به (الرياضَ) في بيته :
حملتُ إليه من لساني حديقةً *** سقاها الحجى سقيَ الرياضَ السحائبِ (17)
ربما تجد الأمر غريباً ، ولكن هذا المتنبي ، ويعني (سقاها الحجى سقيَ السحائبِ الرياضَ )
6 - والفرزدق يُدخل (الـ ) على الفعل المضارع في بيته :
ما أنتَ بالحكمِ التُرضى حكومته *** ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ
هذا الفرزدق الزاهي بموهبته، والمتماهي بأصالته ،وأروم عراقته ، لا يبالي باللغويين والنحويين ، ويقول : علي ّأن أقول ، وعليكم أنْ تحتجوا بشعري ، فذهب هؤلاء العلماء من بعده
منقسمين بين من يرى الأمر ضرورة في لحظة النظم ، وبين من يحكم بالاختيار ، لأنهم يقولون ببساطة ، كان يمكنه ، أن يبدل بـ (التُرضى) (المرضي) ، وينتهي الإشكال !!
ولكن يذكر كاتب هذه السطور في كتابه (نشأة النحو ...) أنّ الكوفيين كانوا يعدون الألف واللام من الأسماء الموصولة بمعنى الذي ، التي ، الذين ، اللواتي ... ، لذلك كان يقول الفرزدق علي أن أقول ، وعليكم أن تحتجوا ، ولا أعرف كيف فات الأمر على بعض علفماء اللغة ، وقالوا كان بإمكانه أن يقول : ( المرضي) ، والحقيقة كان يريد أنْ يقول (الذي تُرضى حكومته ) !! ، وخذْ شاهداً أخر :
من القوم (الرسول) الله منهم *** لهم دانتْ رقاب بني معدِّ
أي بمعنى (من القوم الذين رسول الله منهم) ، وتمتع بمثال ثالث :
مَنْ لا يزال شاكراً على (المعه) *** فهو حر بعيشةٍ ذات سعه (18)
بمعنى ( على الذي معه) ، وقد أجاز ابن مالك في (ألفيته) هذه (الـ) الموصولة ، بقوله :
وصفةٌ صريحةٌ صلة الْ *** وكونها بمعرب الأفعال قلْ (19)
هل اقتنعت أنّ الألف واللام كانت تعني الأسماء الموصولة ، أم لا ؟ فلماذا ذهب هؤلاء يشرقون ويغربون ولا يشيرون ولا يبحثون ؟!!
7 - وقد فصل هذا الفرزدق بين (ما ) و(زال) في الفعل الماضي الناقص (ما زال) بـ (إنْ) - والرجل يحتج بشعره - وذلك في قوله :
رأيتُ تَباشيرَ العُقوقِ هي الَّتي *** مِنِ ابنِ امرِئٍ ما إن يَزالُ يُعاتِبُه
وأبو تمام لم يسمع هذا من العرب ، ولكن لمّا وجد العرب يأتون بـ ( إنْ) بعد (ما) النافية ، قاس الأمر على (مازال ) ، وأدخلها في عدة مواقع من شعره ، وإليك هذا البيت :
وَما إن زالَ في جَرمِ بنِ عَمرٍو *** كَريمٌ مِن بَني عَبدِ الكَريمِ
وسار على هذا النهج شعراء عصره كأبي نؤاس والبحتري وابن الرومي ، بل أورد ابن هشام أحد شواهده ، يتضمن مثل هذه الـ (إنْ) المحشورة (20) .
8 - وقد ذكرت في كتابي (نشأة النحو ..)، قد أجاز الكوفيون إظهار (أن) بعد (كي) كقول الشاعر :
أردتُ لكيما أنْ تطير بقربتي *** فتتركها شنّاً ببيداءِ بلقعِ
وأجازوا أيضاً دخول اللام في خبر (لكن) ، كقول الشاعر : ( ولكنني من حبّها لعميدُ) ، والمتنبي يحذف (أنْ) الناصبة للفعل المضارع ، ويفعلها في بيته :
وقبل يرى من جوده ما رأيتهُ *** ويسمعَ فيهِ ما سمعت من العذلِ (21)
وأراد ( أنْ يرى) .
9 - وقد يؤنث الشاعر الفعل مع المذكر كقول جرير يهجو ابن جرموز:
لما أتى خبر الزبير تواضعت*** سور المدينة والجبال الخشَّع
فأتى الشاعر بـ (سور) ، بعد فعل ألحقتْ به تاء التأنيث الساكنة ، ويعلل ابن منظور في (لسانه) ، لأن السور جزء من المدينة ، فكأنه قال : تواضعت المدينة !! (22)
وقد يحدث العكس تذكير ما يوجب تأنيثه ، ففي البيت الآتي (رؤية معين) ، والحق ( رؤية معينة) :
رؤية الفكر ما يؤل له الأمر *** معينٌ على اجتناب التواني
و يعلل السيوطي في (همع هوامعه) : قد يكتسب المضاف من المضاف إليه تأنيثا وتذكيرا إن صح حذفه ولم يختل الكلام به وكان بعضا من المضاف إليه أو كبعض منه كقولهم قطعت بعض أصابعه ، وقول الشاعر : ( كما شرقت صدر القناة من الدم ) (23)
10- لا يجيز النحويون أنْ تأتي (أن) بين (كاد) و(يفعل) ، وإنما تقول العرب (كاد يفعل)، هذا في الكلام ، ولكن في الشعر تأتي ضرورة ، قال ابن الأعرابي-الرجز :
يكاد لولا سيره أن يملصا *** جدبه الكصيص ثم كصكصا (24)
لولا الضرورة الشعرية ، لقال المتكلم ( يكاد لولا سيره يملصا ) .
11 - ويورد كاتب هذه السطور في (نشأته ...) ، أجاز المازني وهو شيخ البصريين دخول الباء على الفاعل ، وهذا شاذ ، بمعنى أنه ساير الكوفيين ، في البيت الآتي :
إذا لاقيتِ قوماً فاسأليهم *** كفى قوماً بصاحبهم خبيرا
وهذا من المقلوب ، ومعناه ( كفى بقوم خبيراً صاحبهم ، فجعل الباء في ( الصاحب ) ، وموضعها (القوم) ، ، وفي القران الكريم شاهد ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، ، والتقدير - والله الأعلم - (ولا تلقوا أيديكم) . (25)
12 - أجاز المبرد شيخ البصريين - قياساً - دخول (حتى) العاطفة على الضمائر :
وأكفيه ما يخشى وأعطيه سؤلهُ *** وألحقه بالقوم حتّاه لاحقُ
ويعقب عبد القادر البغدادي في (خزانته) "على أن المبرد زعم أن حتى هنا جرت الضمير. وليس كذلك، وإنما حتى هنا ابتدائية، والضمير أصله هو، فحذف الواو ضرورة " (26)
وقول الآخر (الوافر) :
فلا والله لا يلقي أناسٌ *** فتىً حتّاك يا بن أبي يزيد
ويعقب البغدادي نفسه " على أن المبرد تمسك به على أن حتى تجر الضمير ، وأجاب الشارح المحقق بأنه شاذ. والأحسن أن يقول ضرورة، فإنه لم يرد في كلام منثور " (27)
13 - منع صرف المصروف : يذكر كاتب هذه السطور في (نشأته) : البصريون لا يجيزون منع صرف المصروف حتى ضرورة في الشعر ، ولكن الكوفيين يجيزون ذلك ، والمتنبي سار على نحوهم ،فهو منهم ، خذ هذا البيت منه :
وحمدانُ حمدونٌ ، و(حمدونُ) حارثٌ *** و(حارثُ ) لقمانٌ ، ولقمانُ راشدِ
قال أبو البقاء العكبري في (تبيانه) : " ترك صرف حمدون وحارث ضرورة ، وهو جائز عندنا ( يقصد الكوفيين) ،غير جائز عند البصريين " (28) ، وحصرتُ لك الكلمتين بين قوسين في البيت ، لكي تستدل عليهما - للقارئ العام - ، وفي عصرنا أيضاً ، ذهب الجواهري الكوفي على مذهب المتنبي ، إذ خاطبه ، ومنع ابنه ( محسّد ) من الصرف ، وهو مصروف ، قائلاً :
ومنْ قبلِ ألفٍ عوى ألفٌ فما انتفضتْ *** أبا (محسّدَ) بالشّتم الأعاريبُ
العجز حقّه ( أبا محسّدٍ) ، ولكن لا يستقيم الوزن ، فلجأ للضرورة التي يوافق عليها الكوفيون ، ويتحفظ عليها البصريون ، والنحو الحالي نحوهم . (29)
ويقول معروف الرصافي :
أسماءُ ليسَ لنا سوى الفاظِها *** أمّا معانيها فليستْ تُعرفُ
(أسماء) كلمة مصروفة، وإن كانت على وزن (فعلاء) ، لأن أصل همزتها واو(أسماو) ، وقلبت ، هذا حسب رأي البصريين ، فعندهم الاسم مشتق من السمو ، بينما يذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من (الوسم) (30) ، قال تعالى : ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ...) ( النجم - 23 ) .
وعلى العموم ،الكلمات المنتهية بألف ممدودة ( اء ) على أربعة أقسام :
أ - أسماء مبنية مثل (هؤلاءِ ) ، فهي مبنية على الكسر ، غير مشمولة بأحكام الأسماء المصروفة وغير المصروفة ، لأن هذه الأحكام تخص الأسماء المعربة .
ب - أن تكون الهمزة فيها أصلية مثل (قرّاء ) من قرأ ، و(إنشاء) من نشأ ، و (وضاء) ، هذه مصروفة ، الأولى على وزن ( فعّال) ، والثانية على وزن (إفعال) ، والثالثة على وزن (فعال) .
ج - أنْ تكون الهمزة فيها منقلبة مثل ( أسماء) جمع (اسم) منقلبة من الواو (السمو)،فهي مصروفة أيضاً كسابقتها ، شرط أن لا تكون الكلمة اسم علم كـ (أسماء) ، فتمنع من الصرف للعلمية والتأنيث.
نعود ، وكلمة ( قضاء ) منقلبة من ياء وأصلها يقضي ، و (استدعاء ) همزتها منقلبة من واو ، وأصلها يدعو ، خلاصة الكلام ( أسماء واستدعاء وقضاء ) أسما مصروفة ، لأن همزتها منقلبة .
د - أمّا القسم الرابع من الكلمات ، فتكون الهمزة فيها زائدة كـ ( علماء ، صحراء ،حسناء ، شعراء ، فقراء ، أقرباء ،أصدقاء ، وأشياء) ، وفي هذه الحالة يمنع الاسم من الصرف ، فكما ترى (علماء) من علم ، فالهمزة زائدة ، وكذلك (صحراء) من صحر ، و(حسناء) من حسن ... وأخيراً (أشياء) من شيء على وزن (فعل) ، فعند الجمع تدحرجت الهمزة إلى بداية الكلمة (قلب مكاني) ، فأصبحت (أشي على وزن لفع ) ، وزيدت ألف التأنيث الممدودة (اء) ، فصارت (أشياء) على وزن لفعاء ، فهمزتها زائدة ، تمنع من الصرف - وقال الكسائي على وزن أفعال - والقرآن الكريم خير شاهد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة 101 )
14 - صرف الممنوع من الصرف : اتفق البصريون والكوفيون على جواز صرف الممنوع من الصرف ضرورة في الشعر:
قال امرؤ القيس ، وهو من أوائل شعراء العربية ممن وصلنا شعرهم :
ولمّا دخلت الخدر خدر عنيزة ٍ *** فقالت لك الويلات إنّك فاضحي
وقد صرف (عنيزةٍ) ، وهي ممنوعة من الصرف لعلميتها وتأنيثها ، وتائها المربوطة ، وقول الأخطل ، وقد صرف ( مثاكيلٍ) ، في بيته التالي من البسيط ، والكلمة ممنوعة من الصرف على وزن (مفاعيل) :
كَلَمعِ أَيدي مَثاكيلٍ مُسَلِّبَةٍ *** يَنعَينَ فِتيانَ ضَرسِ الدَهرِ وَالخُطُبِ
كان بإمكان الأخطل لا يصرف ( مثاكيلٍ) ، ويدعها (مثاكيلَ ) ، ويمشي صدر البيت ، إذ تمر التفعيلة الثالثة من الصدر (مستفعلن) بزحاف الطي ، فتصبح التفعيلة (مسْتعلن) ، وهي من جوازات البسيط ، ولكن الرجل أراد استقرارها للطف الوزن ، وهو محق ، وخذ قول الشاعر ، وقد صرف (أنطاكيةٍ) ، وهي علم أعجمي مؤنث :
علونَ بأنطاكيّة ٍ فوق عجمة ٍ * كجرمة ِ نخل ٍ أو كجنّة يثربِ
ويروي ابن أبي الأصبع في (تحريره) قول " أبي حية النميري فيما قاله في زينب أخت الحجاج حيث قال طويل
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذ مشتْ *** به زينبٌ في نسوة عطراتِ " (31)
15 - بل ذهب الشعراء إلى تنوين المنادى المبني كتنوين كلمة (جملٌ)،وهي مبنية على الضم : ليت التحية لي فأشكرها ***مكان يا (جملٌ) حييت يا رجلُ
يروي ابن منظور في (مختصره لتاريخ دمشق) كانت عزة لسبب قد حلفت أن لا تكلم كثيراً سنةٌ، فلما انصرفت من الحج بصرت بكثير وهو على جمله يخفق نعاساً، فضربت رجله بيدها وقالت: كيف أنت ياجمل؟ فأنشأ كثير يقول: من البسيط :
حيتك عزة بعد الحج وانصرفت *** فحيّ ويحك من حياك يا جملُ
لو كنت حييتها لا زلت ذا مقةٍ *** عندي ولا مسك الإدلاج والعملُ
ليت التحية كانت لي فأشكرها *** مكان يا (جملٌ ) حييت يا رجلُ (32)
وأكثر من هذا ما يستشهد به ابن عقيل في ( شرحه لألفية ابن مالك ) ، الشاهد (308) :
ضربت صدرها الي وقالت*** يا ( عديا ً) لقد وقتك الاواقي
هذا البيت للمهلهل بن ربيعة أخي كليب ، من أبيات يتغزل فيها بابنة المحلل ، والشاهد بالبيت (يا عَدِيّاً) حيث اضطر الشاعر إلى تنوين المنادى ، ولم يكتفِ بذلك ، بل نصبه مع كونه مفرداً علماً ، ليشابه به المنادى المعرب المنون بأصله ، وهو النكرة غير المقصودة (33) كل الضرورات يوظفها الشاعر لكي لا يتجاوز أوزان بحور الخليل ، وما تداركه الأخفش الأوسط ، بتمامها ومجزوءاتها ، ومشطوراتها ، ومنهوكاتها ، وبكل أنواع أضربها ، لا لكي نوّلد أوزان أخرى غير مضمونة النتائج ، و يمجّها الذوق العربي ، وتقذف به الأذن العربية إلى سلة المهملات ، التجديد بحاجة إلى عباقرة يفرضون ذوقهم الفني واللغوي والإيقاعي على مسامع الأمة ، وسلامة اللغة من الضياع أو الأنحراف ، وتتوارث تجربتهم الأجيال بالتصفيق والارتياح ، وما جيل روّاد شعر التفعيلة إلا شهداء على ما نقول ، والإبداع الإنساني ولود لا يزول ، وإلى حلقة قادمة عن الضرورات والشعر الرائع المأمول !!
وحمدانُ حمدونٌ ، و(حمدونُ) حارثٌ *** و(حارثُ ) لقمانٌ ، ولقمانُ راشدِ
قال أبو البقاء العكبري في (تبيانه) : " ترك صرف حمدون وحارث ضرورة ، وهو جائز عندنا ( يقصد الكوفيين) ،غير جائز عند البصريين " (28) ، وحصرتُ لك الكلمتين بين قوسين في البيت ، لكي تستدل عليهما - للقارئ العام - ، وفي عصرنا أيضاً ، ذهب الجواهري الكوفي على مذهب المتنبي ، إذ خاطبه ، ومنع ابنه ( محسّد ) من الصرف ، وهو مصروف ، قائلاً :
ومنْ قبلِ ألفٍ عوى ألفٌ فما انتفضتْ *** أبا (محسّدَ) بالشّتم الأعاريبُ
العجز حقّه ( أبا محسّدٍ) ، ولكن لا يستقيم الوزن ، فلجأ للضرورة التي يوافق عليها الكوفيون ، ويتحفظ عليها البصريون ، والنحو الحالي نحوهم . (29)
ويقول معروف الرصافي :
أسماءُ ليسَ لنا سوى الفاظِها *** أمّا معانيها فليستْ تُعرفُ
(أسماء) كلمة مصروفة، وإن كانت على وزن (فعلاء) ، لأن أصل همزتها واو(أسماو) ، وقلبت ، هذا حسب رأي البصريين ، فعندهم الاسم مشتق من السمو ، بينما يذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من (الوسم) (30) ، قال تعالى : ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ...) ( النجم - 23 ) .
وعلى العموم ،الكلمات المنتهية بألف ممدودة ( اء ) على أربعة أقسام :
أ - أسماء مبنية مثل (هؤلاءِ ) ، فهي مبنية على الكسر ، غير مشمولة بأحكام الأسماء المصروفة وغير المصروفة ، لأن هذه الأحكام تخص الأسماء المعربة .
ب - أن تكون الهمزة فيها أصلية مثل (قرّاء ) من قرأ ، و(إنشاء) من نشأ ، و (وضاء) ، هذه مصروفة ، الأولى على وزن ( فعّال) ، والثانية على وزن (إفعال) ، والثالثة على وزن (فعال) .
ج - أنْ تكون الهمزة فيها منقلبة مثل ( أسماء) جمع (اسم) منقلبة من الواو (السمو)،فهي مصروفة أيضاً كسابقتها ، شرط أن لا تكون الكلمة اسم علم كـ (أسماء) ، فتمنع من الصرف للعلمية والتأنيث.
نعود ، وكلمة ( قضاء ) منقلبة من ياء وأصلها يقضي ، و (استدعاء ) همزتها منقلبة من واو ، وأصلها يدعو ، خلاصة الكلام ( أسماء واستدعاء وقضاء ) أسما مصروفة ، لأن همزتها منقلبة .
د - أمّا القسم الرابع من الكلمات ، فتكون الهمزة فيها زائدة كـ ( علماء ، صحراء ،حسناء ، شعراء ، فقراء ، أقرباء ،أصدقاء ، وأشياء) ، وفي هذه الحالة يمنع الاسم من الصرف ، فكما ترى (علماء) من علم ، فالهمزة زائدة ، وكذلك (صحراء) من صحر ، و(حسناء) من حسن ... وأخيراً (أشياء) من شيء على وزن (فعل) ، فعند الجمع تدحرجت الهمزة إلى بداية الكلمة (قلب مكاني) ، فأصبحت (أشي على وزن لفع ) ، وزيدت ألف التأنيث الممدودة (اء) ، فصارت (أشياء) على وزن لفعاء ، فهمزتها زائدة ، تمنع من الصرف - وقال الكسائي على وزن أفعال - والقرآن الكريم خير شاهد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة 101 )
14 - صرف الممنوع من الصرف : اتفق البصريون والكوفيون على جواز صرف الممنوع من الصرف ضرورة في الشعر:
قال امرؤ القيس ، وهو من أوائل شعراء العربية ممن وصلنا شعرهم :
ولمّا دخلت الخدر خدر عنيزة ٍ *** فقالت لك الويلات إنّك فاضحي
وقد صرف (عنيزةٍ) ، وهي ممنوعة من الصرف لعلميتها وتأنيثها ، وتائها المربوطة ، وقول الأخطل ، وقد صرف ( مثاكيلٍ) ، في بيته التالي من البسيط ، والكلمة ممنوعة من الصرف على وزن (مفاعيل) :
كَلَمعِ أَيدي مَثاكيلٍ مُسَلِّبَةٍ *** يَنعَينَ فِتيانَ ضَرسِ الدَهرِ وَالخُطُبِ
كان بإمكان الأخطل لا يصرف ( مثاكيلٍ) ، ويدعها (مثاكيلَ ) ، ويمشي صدر البيت ، إذ تمر التفعيلة الثالثة من الصدر (مستفعلن) بزحاف الطي ، فتصبح التفعيلة (مسْتعلن) ، وهي من جوازات البسيط ، ولكن الرجل أراد استقرارها للطف الوزن ، وهو محق ، وخذ قول الشاعر ، وقد صرف (أنطاكيةٍ) ، وهي علم أعجمي مؤنث :
علونَ بأنطاكيّة ٍ فوق عجمة ٍ * كجرمة ِ نخل ٍ أو كجنّة يثربِ
ويروي ابن أبي الأصبع في (تحريره) قول " أبي حية النميري فيما قاله في زينب أخت الحجاج حيث قال طويل
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذ مشتْ *** به زينبٌ في نسوة عطراتِ " (31)
15 - بل ذهب الشعراء إلى تنوين المنادى المبني كتنوين كلمة (جملٌ)،وهي مبنية على الضم : ليت التحية لي فأشكرها ***مكان يا (جملٌ) حييت يا رجلُ
يروي ابن منظور في (مختصره لتاريخ دمشق) كانت عزة لسبب قد حلفت أن لا تكلم كثيراً سنةٌ، فلما انصرفت من الحج بصرت بكثير وهو على جمله يخفق نعاساً، فضربت رجله بيدها وقالت: كيف أنت ياجمل؟ فأنشأ كثير يقول: من البسيط :
حيتك عزة بعد الحج وانصرفت *** فحيّ ويحك من حياك يا جملُ
لو كنت حييتها لا زلت ذا مقةٍ *** عندي ولا مسك الإدلاج والعملُ
ليت التحية كانت لي فأشكرها *** مكان يا (جملٌ ) حييت يا رجلُ (32)
وأكثر من هذا ما يستشهد به ابن عقيل في ( شرحه لألفية ابن مالك ) ، الشاهد (308) :
ضربت صدرها الي وقالت*** يا ( عديا ً) لقد وقتك الاواقي
هذا البيت للمهلهل بن ربيعة أخي كليب ، من أبيات يتغزل فيها بابنة المحلل ، والشاهد بالبيت (يا عَدِيّاً) حيث اضطر الشاعر إلى تنوين المنادى ، ولم يكتفِ بذلك ، بل نصبه مع كونه مفرداً علماً ، ليشابه به المنادى المعرب المنون بأصله ، وهو النكرة غير المقصودة (33) كل الضرورات يوظفها الشاعر لكي لا يتجاوز أوزان بحور الخليل ، وما تداركه الأخفش الأوسط ، بتمامها ومجزوءاتها ، ومشطوراتها ، ومنهوكاتها ، وبكل أنواع أضربها ، لا لكي نوّلد أوزان أخرى غير مضمونة النتائج ، و يمجّها الذوق العربي ، وتقذف به الأذن العربية إلى سلة المهملات ، التجديد بحاجة إلى عباقرة يفرضون ذوقهم الفني واللغوي والإيقاعي على مسامع الأمة ، وسلامة اللغة من الضياع أو الأنحراف ، وتتوارث تجربتهم الأجيال بالتصفيق والارتياح ، وما جيل روّاد شعر التفعيلة إلا شهداء على ما نقول ، والإبداع الإنساني ولود لا يزول ، وإلى حلقة قادمة عن الضرورات والشعر الرائع المأمول !!
0 comments:
إرسال تعليق