نعم! ، شهدت تايلاند العديد من المحاولات الإنقلابية في تاريخها المعاصر. كما شهدت أيضا قلاقل سياسية مريرة واحتجاجات ومصادمات شارعية في السنوات الأخيرة، لكنها على الرغم من كل ذلك ظلت تجسد صورة "بلاد الحب"، كما يعني إسمها، وبقيت واحة أمن وإستقرار، يشد اليها الرحال السياح من مختلف أرجاء المعمورة دون خوف أو قلق أو تردد.
لكن محبي السياحة، وهي المصدر الأهم للدخل القومي التايلاندي، سوف يعيدون حساباتهم اليوم بعدما شهدت بانكوك مؤخرا سلسلة من التفجيرات غير المسبوقة في هذه العاصمة المتألقة ببنيتها التحتية الجيدة وعمرانها وتجارتها وخدماتها المتنوعة. فمن ياترى حسد تايلاند على نعمة الأمن والإستقرار والإزدهار، وقرر أن يـُلحقها ببقية الدول التي تشهد القلاقل ومشاهد الرعب؟
هذا السؤال تم تداوله سريعا بـُعيد جمع الإشلاء التي خلفتها التفجيرات الليلية في قلب العاصمة لنحو 20 قتيلا، نصفهم من السياح الأجانب، ونحو 120 جريحا، خصوصا وأن الواقعة حدثت بعد وقت قليل من نشر الحكومة التايلاندية لقاعدة بيانات مفادها أنّ الأحوال الإقتصادية، بما فيها عوائد السياحة وحجم الإنفاق، شهدت تحسنا ملحوظا في النصف الثاني من العام الجاري من بعد خلل أصابها في الفترة السابقة بسبب القلاقل والصراعات السياسية ما بين جماعة تؤيد الحكومة الحالية (جماعة القمصان الصفراء)، وأخرى تناهضها (جماعة القمصان الحمراء المؤيدة لرئيس الوزراء الأسبق "تاكسين شيناواترا").
أصابع الإتهام وُجهت سريعا إلى جماعة القمصان الحمراء، غير أنّ الأخيرة نفت ضلوعها في مثل هذا العمل الدنيء مشيرة إلى أنها لئن كانت مصممة على معارضة الحكومة، فإنها تنأى بنفسها عن قتل الأبرياء وإستهداف المعابد الدينية (أحد التفجيرات استهدف معبد "إيراوان" الهندوسي/ البوذي الواقع على مقربة من تقاطع الطرق الرئيسية في الحي التجاري بالعاصمة). النفي المذكور لم يلق صدى لدى البعض ممن أصروا على إتهام هذه الجماعة بالوقوف خلف الجريمة مذكرين بأنها فشلتْ في اسقاط الحكومة الحالية بالوسائل السياسية، فلجأت إلى وسيلة تدمير الإقتصاد التي يمكن أنْ تتسبب في تدهور مستويات المعيشة، فتنتفض الجماهير ضد السلطة بالتبعية. والحقيقة أن الوسيلة المذكورة قد تكون ناجعة، خصوصا وأنها تضرب السياحة التايلاندية، التي يقتات الكثيرون عليها، في مقتل. ويكفينا في هذا السياق أنْ نشير إلى أن سعر صرف العملة المحلية (البات) هوى إلى أدنى المستويات، ونشير أيضا إلى ردود الأفعال الأولية التي صدرت من هونغ كونغ والصين واليابان وهي الدول القريبة التي يأتي منها أعداد معتبرة من السياح. فالسلطات السياحية في هونغ كونغ مثلا ألغتْ كل الرحلات المقررة إلى بانكوك حتى نهاية أغسطس. وفي اليابان قررت الحكومة تأجيل فعاليات "إكسبو اليابان ـ تايلاند 2015" (فعاليات لترويج الثقافة والفنون وعروض الزياء اليابانية) التي كان مقررا إقامتها في بانكوك نهاية الشهر الجاري في مركز التجارة العالمي القريب من معبد "إيراوان" إلى أجل غير مسمى. إلى ذلك أصدرت 23 دولة تحذيرات إلى رعاياها بعدم السفر إلى تايلاند، ومن بينها الصين التي يشكل مواطنوها خمس إجمالي القادمين إلى تايلاند للسياحة، بل الدولة التي كانت بانكوك تراهن عليها لرفع عدد سياحها من 25 مليون سائح في العام الماضي إلى نحو 29 مليون سائح هذا العام مع توقع إنفاقهم لنحو 2.2 تريليون بات.
الجهة الثانية التي راحت الأصابع تشير إليها كمخططة ومنفذة للتفجيرات كانت ثوار إقليم "تركستان الشرقية" الصيني من المسلمين الإيغور، والفرضية التي بـُني عليها الإتهام هو أنّ المئات من هؤلاء كانوا يعيشون إلى وقت قريب جدا في تايلاند كمهاجرين غير شرعيين قبل أنْ تقوم بانكوك ــ تحت ضغط بكين ــ بترحيل قسم منهم قسرا إلى وطنهم دون أنْ تـُلقي بانكوك بالا لمناشدات المنظمات الحقوقية التي أعربت عن مخاوفها مما ينتظره هؤلاء في وطنهم على أيدي السلطات الصينية، وقسم آخر إلى تركيا التي يرتبطون بها بروابط عرقية وثقافية.
الحلقة الأضعف ضمن من أتهموا بالوقوف خلف التفجيرات هي الحركات الانفصالية في جنوب تايلاند المسلم. فهذه لئن كان لها تاريخ طويل في التصدي العنيف للحكومة المركزية، فإن إمكانياتها المادية واللوجستية لم تعد قوية كما كانت أيام تألق جماعات القاعدة وطالبان وأبي سياف الإرهابية، ناهيك عن حقيقة أن جلّ العمليات الإرهابية التي إرتكبتها هذه الحركات في الماضي إقتصر على ضرب مصالح حكومية داخل أقاليمها، ولم تمتد إلى العاصمة إلا نادرا.
وتتساوى هذه الفرضية في ضعفها مع فرضية ضعيفة أخرى يروج لها ذوو القمصان الحمراء ومفادها أن الجيش والاستخبارات التايلانديين هما اللذين خططا ونفذا العمليات من أجل خلق حالة عداء عامة ضد حركتهم، وبما يتيح للحكومة الحالية البقاء في السلطة لفترة أطول دون إجراء إنتخابات برلمانية جديدة. والجدير بالذكر أن الحكومة التايلاندية الحالية يترأسها منذ أغسطس 2014 قائد الجيش السابق الجنرال "برايوت تشان ـ أوتشا" الذي عينته هيئة تشريعية منتقاة بعد موافقة الملك.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أغسطس 2015
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
من ياترى حسد تايلاند على نعمة الأمن والإستقرار، وقرر أن يلحقها ببقية الدول التي تشهد القلاقل؟
0 comments:
إرسال تعليق