نحن والآخر والوطن عنوان اخترته لهذا الموضوع لأني أرى وطنا ينزف بغزارة، وقد اشتركنا بذبحه أنا والآخر، وسمحنا لعدونا باستباحته، وآن لي وللآخر أن نشترك بتضميد جراحه ليعود زاهيا من جديد. فمن أنا ومن الآخر؟
أنا أو نحن: هي الأنا السفلى، والأنا العليا، والجوهر
الآخر: الذي هو كل ما عداي وما سواي حتى أخي هو آخر بالنسبة لي.
الوطن: هو الهوية
نحن: للمرحومة الشاعرة نازك الملائكة قصيدة عنوانها (أنا) تقول فيها:
الليلُ يسألُ من أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففتُ قلبي بالظنونْ
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون?
والريحُ تسأل من أنا
أنا روحُها الحيران أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
(نحن) هي مجموع (الأنا) و (الأنا) كما وصفها (فرويد): تمثل شخصية المرء في أكثر حالاتها اعتدالاً، وتمثل الإدراك والتفكير والحكمة والملائمة العقلية. فالشخصية عند فرويد هي محصلة التفاعل بين أنظمة ثلاث، هي على التوالي: (الهو) (Id) وتقابله (الأنا السفلى) ثم (الأنا) (ego) وأخيرا (الأنا العليا) (super ego)، ويعتقد فرويد أن هذه المصطلحات تقدم وصفا ممتازا للعلاقات الديناميكية بين الوعي واللاوعي، فالأنا غالبا ما تكون واعية وتتعامل مع الواقع الخارجي بوعي، أما الأنا العليا فواعية جزئيا. وتمثل المحاكمة الأخلاقية الداخلية. في حين يمثل الهو اللاوعي.
إن (الأنا) الواعية محدودة التأثير، فالتأثير كله يقع على (الأنا العليا) أو الضمير، الذي يمثل شخصية المرء في صورته الأكثر تحفظاً وعقلانية، حيث لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ، ابتعادا عن جميع الأفعال الشهوانية والغرائزية.
الآخر: بعد الأحداث الدموية، قال الشاعر السوري (نزيه أبو عفيفي) في قصيدته (خندق الميليشيا):ـ
أنا الآخَرُ، وأنتمُ الآخَرون.
تسمُّونني أخاً
وأدعوكم: إخواني
أبداً، أبداً
لستُ الشقيقَ، ولا الصاحبَ، ولا شريكَ الحياة.
أبداً، أبداً
لستََ شقيقي، ولا صاحبي، ولا شريكَ حياتي.
كلانا: آخَر...
كلانا: مجرَّدُ آخَر!...
كلانا آخَرُ الآخَرْ
أنا الآخَرُ
وأنتَ آخَرُ الآخَر...
(الآخر) هو كل ما يختلف عنا، أو نختلف عنه، أو لا يشبهنا سواء من حيث اللون/ الجنس/ العادات/ التقاليد/ القيم/ الفكر/ التوجه السياسي/ التوجه الديني/ التوجه المذهبي. وبمعنى أوضح هو كل ما ليس أنا أو ما ليس نحن؟
الآخر: فكرة أساسية للفلسفة الأوروبية الحديثة، مضادة لمعنى فلسفة الذات. تشير إلى كل ما هو غير المحور المقصود، كل ما هو غير النفس المستقلة. فكل ما هو غير نفسيْ أنا يُعد آخر، ويمثل الضد النوعي للأنا، وقد وجد المختصون أن حالة التضاد بين الإنسان والإنسان ... بين الأنا والآخر لا تبرز إلى الوجود بشكل مائز إلا حينما تنشب الأزمات ذات الطابع الفئوي.
الهوية: هي المطابقة، فحينما يتطابق رأي مع رأي آخر تولد هوية. وحينما يحب شخص ما نفس ما يحبه شخص آخر تولد هوية. وحينما يشجع شخص ما فريقا رياضيا يشجعه آخرون تولد بينهم هوية. وحينما يهوى شخص ما صيد السمك ويجد هاو مثله لصيد السمك تولد هوية.
الهوية اللغة: مشتقة من الضمير (هو). يشير مفهومها إلى ما يكون به الشيء هو هو، أي من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتميزه عن غيره، وهي حقيقة الشيء أو الشخص أو المجتمع أو الأمة التي تميزها عن غيرها.
والهوية اصطلاحا: تعني الإتحاد بالذات، فذات الإنسان هي هويته. وهي كل ما يشكل شخصيته من مشاعر، وأحاسيس، وقيم، وآراء، ومواقف، وسلوك ، بل وكل ما يميزه عن غيره من الناس. وعلى هذا الأساس فَرَضَ مصطلح الهُوِيَّةُ نفسه باعتباره مصطلحا فلسفيا يُستدل به على كون الشيء هو نفسه.
ولمصطلح الهوية في العلوم معان عديدة:ـ
فهي عند الصوفيين: الحقيقة في عالم الغيب.
وعند الفلاسفة: الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق.
وعند علماء النفس: وحدة ذات الشخص في مراحله المختلفة، طفلاً وشابّاً وكهلاً وشيخاً.
وعند علماء الاجتماع: الشيء الذي يُشعر الشخص بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، والانتماء إليه.
إن مفهوم (الآخر) عنصر أساسي في فهم وتشكيل الهوية، حيث يقوم الناس بتشكيل أدوارهم وقيمهم ومناهج حياتهم قياسا ومقارنة بالآخرين كجزء من منهجية التفاعل البيني التي لا تحمل بالضرورة معان سلبية.
ومن الغرابة أن تجد مفهوم (الآخر) في شرقنا لا زال ضبابيا، ولازلنا ـ أنا والآخر ـ غير قادرين على تعريف الآخر والاعتراف بحقه، لا زلنا غير قادرين على قبوله والتعامل معه كمنافس شريف؛ بل نتعامل معه كند خطير أو كعدو محتمل في كل الأوقات؛ ربما لأن مصطلح (الآخر) نفسه لا يمكن تحديده بمعنى ثابت، أو ضبطه بمدلول محدد بالرغم من أن وجود الآخر في حياتنا هو الذي يعطيها الرفعة والجمال والتلون، وهو الذي يخلق من مجموعنا شعب.
لقد اتفق المختصون على انه يستحيل وجود شعب بدون هوية. فهوية أي شعب هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات، فلكل جماعة مشترك جمعي ونفسي يؤسس انتماء أعضائها وإحساسهم بالوجود الجمعي. بما يعني أن الهوية تضم المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني بالمعنى الواسع لهذه الكلمات، أي هي كل ما يكون به المجتمع مطابقا لذاته، رغم التبدلات والتطورات.
من هنا ندرك ارتباط مصطلحات (نحن) (الآخر) (الهوية) ببعضها ارتباطا كليا هو الذي يحرك الحياة في الأمة والبلد. ولذا متى ما تعرض هذا الترابط إلى أي رجة تحت أي مؤثر تحدثُ (أزمة هوية) تفرز بدورها (أزمة وعي) تؤدي إلى ضياع الألفة أو ضعفها، فينتهي بذلك وجود اللحمة التي تربط المكونات بسبب ضياع الحاضن الجامع.
ومع أن الهوية تتشكل عند الجماعة أو الحضارة عبر تاريخ طويل من الأحزان والأفراح والآلام والمسرات والذكريات المشتركة؛ لتتحول إلى وعي الجماعة بتاريخها ومعرفتها بذاتها؛ إلا أنها هشة سهلة الكسر ممكن لأي مؤثر خارجي أو داخلي أن يحطم وجودها.
بمعنى أن الهوية تتشكل عادة من الثوابت التي تكّونُ المشترك الجمعي للأمة مثل التاريخ، الأرض، الحضارة، الثقافة، الطموح، المصير الواحد، الموروث، الدين، التقاليد، العادات، وصولاً إلى اللغة التي تتقاربُ الأرحامُ على أساسٍها. حيث يأخذ الكائن الإنساني آدميته وانتماءه المتسامي.
العراق والهوية: ومع أن مصطلح الهوية لم يكن متداولا في الحياة الثقافية والفكرية إلى مطلع القرن العشرين، إلا أني لا أبالغ إذا ما قلت: إن العراقيين هم أول الناس إدراكا لأهمية الهوية وقيمتها، وقد يكونون هم الذين أبدعوا فكرة الهويات ولاسيما الهوية الوطنية، التي تعرضَ جوهرها إلى التبدل مرات عديدة بسبب المؤثرات الخارجية.
ولأن التبدلات كانت أكثر من أن تحصى؛ فقد تسبب ذلك بحدوث انتكاسات مريرة أوصلت البلد إلى حافة الخراب. وكان أكثرها تأثيرا ـ ربما بسبب معايشتنا له وشعورنا بأثره ـ التبدل الذي حدث في عام 2003 والذي خلق هويات فردية وجمعية كثيرة جدا.
ونحن نعيش اليوم تداعيات التبدل بما يعني أن هناك مؤثرات خارجية هي التي رسمت صورة التغيير وسعت إليه وتعمدت أن يوقع القطيعة مع الهويات القديمة، وإلا لو تمكن التغيير من احتواء الهويات في أيامه الأولى ما كانت الأمور لتصل إلى هذه المرحلة الخطيرة الصعبة التي مزقت البلاد وقضت كليا على مكونات الهوية واستعاضت بمكونات جديدة خلقت منها هويات لنفسها.
في كل هذا الحراك وصراع الهويات يجب أن نفهم أهمية الهوية، وقدرة الإنسان على خلق هويات توفر له بيئة سليمة للعيش والحياة والعمل، فالإنسان الذي خلق هوية جمعية مع آخرين في شتى أصقاع العالم لمجرد أنهم يشجعون فريق برشلونة مثلا؛ لا يُعدم وسيلة خلق هوية في حدود بلده تجمع بينه وبين أخيه الإنسان العراقي الآخر. فعناصر الهوية شيء ديناميكي متحرك متنوع متعدد يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة لظروف معينة، ويبرز بعضها الآخر في مرحلة أخرى بسبب ظروف مخالفة.
إن عددا كبيرا من الهويات القومية أو الوطنية تطور بشكل طبيعي عبر التاريخ؛ في وقت نشأ البعض الآخر منها بسبب أحداث أو صراعات أو تغيرات تاريخية؛ سّرعت في تبلور توجهات المجموعة. ونحن متى ما فهمنا هذه الديناميكية ممكن أن نبتكر فضلا عن الهوية الوطنية هويات فرعية تجمعنا وتوفر لنا فرصا نادرة نحتاج إليها كثيرا، لاسيما أن هناك في العالم اليوم تيارات عصرية تنادي بنظرة حداثية إلى إلغاء الهوية الوطنية أو الهوية القومية والاستعاضة عنها بالهويات الفرعية.
إن المصطلحات الثلاث تفاعلت على مر التاريخ في جغرافية العراق بشكل غريب ربما لأن العراقيين كما يرى المرحوم علي الوردي يختلفون عن غيرهم، وهذا الاختلاف ليس مورد نقاش لأننا كنا قبل أن يكون غيرنا؛ وسنبقى بعد أن يزول غيرنا؛ لأننا موعودون بان نكون ضمن الجيش الذي سيطهر الأرض في آخر الزمان.
وقد يكون ما يمر بنا اليوم من قسر وقهر والذي نراه ظاهرة جديدة إنما هو وليد اختلافنا، ووليد تاريخ طويل من المعاناة التي بنته مرحليا، فثمة ظواهر كثيرة يظن المرء أنها جديدة عليه، بينما الجديد فيها لا يمثل إلا تغييرا بسيطا في المظهر، أما جوهرها فهو نفسه الذي مر على من سبقنا من أهلنا.
ونحن لا نحتاج البحث في سبب عودتها بقدر حاجتنا إلى معرفة أسباب وجودها الأول، وقدرتها على البقاء كل هذه السنين، وبقاؤنا عالقين في أجوائها نرفض التحرر من سطوتها.
إن احد أهم سبل تكوين المنظومة الجوابية يقوم على ملكة وهبها الله تعالى للإنسان وحده لتكون الواسطة التي تقربه عقليا وفكريا إلى الآخر؛ وهي اللغة، وقدرة الحديث عن جوهر ما يخص حياته. وبما أننا نتفق على ما توصل إليه العلماء من أن أفكار الإنسان ليست حصيلة نشاطاته العقلية الخاصة به فقط؛ وإنما هي حصيلة البيئة الاجتماعية التي هو جزء منها، لذا يمكن للحديث مع الأخر بتعقل وتفهم وود وصدق أن يوصلنا ويوصله إلى مناطق كانت من قبل محرمة علينا.
لقد أهتم العالم بوجوب التحدث عن القضايا بما له من أهمية في إظهار تلك القضية إلى العلن؛ وعدم بقائها مدفونة في النفوس والقلوب؛ تثير فيها مشاعر الكراهية والبغض. كان المجرم الصهيوني (تيودور هرتزل) يطالب أتباعه بان يتكلموا عن قضية نعرف كلنا مقدار زيفها، ويقول لهم: (كل ما يهمني هو أن تتكلم، حتى لو تكلمت ضد الصهيونية .. لكن لا تصمت إزاء الموضوع، فالحديث عن الشيء، ولو بتفاهة يعرضه على أنظار الناس)
فلماذا لا نتكلم؟ أليس من الممكن أن نتكلم عن قضايا نعتقد ويعتقد الآخر الذي نختلف معه أنها من الأهمية بمكان لدرجة أنها تتحكم بحياتنا الدنيوية؛ وبموقفنا أمام الله يوم الحساب؟
إننا نحتاج إلى التحدث مع بعضنا؛ لأننا نحتاج لأن نبني دولة مدنية يعيش إنسانها سعادة الحياة، ولا أعتقد أننا نحتاج إلى (عرقنة) لنصل إلى درجة تفاهم حتى لو كان محدودا؛ لأننا أولا وأخيرا أبناء شعب كان من أوائل الشعوب على وجه البسيطة.
وأسأل حقا هل نحن بحاجة إلى عرقنة لكي يقبل احدنا الآخر؟ نعم نجحت أمريكا من خلال مشروع (الأمركة) في بناء دولة عظمى؛ لأن أهلها والمهاجرون إليها لا يملكون شيئا مشتركا، لا رابط بينهم، أما نحن مع كل المشتركات التي تربط بيننا فلا نحتاج إلى عرقنة نعيد من خلالها ترميم ما تهدم أو ما آل إلى السقوط، وجل ما نحتاجه مجرد ساعات وعي نفكر خلالها بمقدار ما سنخسره إذا سمحنا لكل هذا البناء التاريخي الرائع أن يتهدم ويسقط نتيجة حماقة.
ما أؤمن به يقينا أننا لن نصل إلى هدفنا إذا لم نتفق على بعض الأسس، ونهتم بالآخر كما نهتم بأنفسنا، فنحن وإياه نركب سفينة واحدة في بحر هائج متلاطم الأمواج، تحيط بنا الحيتان وأسماك القرش، ومن غير المعقول أن يخرق أحدنا جسد السفينة بحجة إغراق الآخر لأننا سنغرق سوية، ومن غير المعقول أن يرغب أحدنا بتسيير السفينة إلى الوراء ويرغب الآخر بتسييرها إلى الأمام لأننا لن نتحرك مترا واحدا.
وما أؤمن به يقينا أنني بدل أن أصرف عمري بحثا عن ما يدخل الآخر إلى النار لكي أشفي غليلي؛ على أن اهتم بشؤوني وابحث عما يأخذني إلى الجنة لأن الدخول إلى الجنة يحتاج إلى عمل صالح كثير لن يتاح لي عندما أنشغل بالانتقام.
وما أؤمن به يقينا أن الإيمان ليس أمرا مستصعبا معجزا؛ ولكنه يبقى ناقصا إذا لم تحب لأخيك ما تحبه لنفسك: "لا يؤمن أحدُكم حتَّى يحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"
إن فهمنا لأنفسنا وللآخر يمنحنا شجاعة تكفينا لنقول لكل الحمقى الذين يريدون التلاعب بمصائرنا؛ أنا والآخر: إننا لا نحتاج إلى رأيكم، ولا نهتم بنصائحكم، فما ورثناه عن أهلنا النجباء بعربيهم وكرديهم، شيعيهم وسنيهم، مسلمهم ومسيحيهم، متدينهم وعلمانيهم، يجعلنا في غنى عن الحمقى وسماع الدعاة على أبوابِ جهنم.
(*) محاضرة ألقيتها في المركز الثقافي الفيلي في واسط يوم الاثنين 2 أيلول 2013
0 comments:
إرسال تعليق