هو كطير لا يعترف بقانون الأسراب الجماعية، حلق باجنحة الشعر خارج السرب. منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وهو يُحارب على جبهة الكتابة في ساحات الشعر وميادين الأدب. أدمن الغربة، وربّما نام على شواطئها، إنّه كاتب من نوع آخر، أحيانًا نجد فيه القلم الحاد والريشة المبتلة دائمًا بالمعاني المشاكسة، وفي أحيانٍ كثيرة نلقاه يسوق للقرّاء الصور البديعة، ولا مغالاة لو قلنا إن جيلاً من الشباب عاشوا في كنفه. أصبح عاموده الأسبوعي ( طك بطك) في صحيفة العراقيّة الغرّاء ماركة مسجلة بقلمه ومعنونة باسمه. هو الذي جعل من تفاصيل غربته ومشاهداتها وتجاربها مادة عالية الدسم للكتابة.
إنّنا أمام شخصيّة عراقيّة متعددة المواهب، مختلفة الأدوار، يعيب البعض عليه انفعاله الشديد في بعض كتاباته وجرأته الجنونية في طرح آرائه التي يراها حقيقية ، وذلك في ظني نتيجة طبيعية لإيمانه العميق بالقضية التي يدافع عنها والآراء التي يطرحها والمشاريع التي يصبوا إليها في حماس كبير وطموح عارم، لمصلحة من يمثلهم أ كان من بسطاء الناس وجموع المعذبين أو من الشعراء والأدباء الذين لم يتسنَ لهم نيل ما يستحقون من حق. وهو يمثل أيضًا نموذجًا للعلاقةِ بين الشاعر المثقف والمجتمع من خلال اختياره موضوعات ذكية ينشط بها.
كنت دومًا أحث عينايّ وما زلتُ اتتبع ما يخطه قلمه هنا وهناك. رائع جدًا أبا عليوي وشاعر من الطراز الأول وناقد لا يشق له غبار، فريد وموضوعي في نقده، يعرف قيمته النقدية المتابعون لكتاباته من الكتّاب، قد ينتقدون استخداماته المباشرة في بعض مقالاته الشعبية، ولكنهم يحرصون دائمًا أن يكون قلمه شاهدًا نقديًا على نتاجاتهم حين تولد ، هو الذي قطع العهد على نفسه وردده على مسامعي مرارًا وتكرارًا ألّا يكتب عن شاعرٍ ورفيق مشوار أدبي كتابة نخبوية ، رغم اصراري أحيانًا بالدفاع والرد.
أسعدتني كثيرًا مزاملته لي في مناسبات أدبية وجلسات ثقافية. يجبركَ على قراءة نتاجه وكتاباته،إذ تستهويني صوره الشعرية الراقية في القصائد العامودية، ويستطيبني اسلوبه الحكواتي السلس في كتاباته الشعبية. مستمتعًا بعذوبة المفردة، فضلاً عن الدقة في إنتقاء التعابير بعناية فائقة، وتبهرني تحليلاته الرائعة والمبنية على الموضوعية.
حديثنا اليوم عن أحمد عبد الرزاق الياسري، الشاعر العراقي الغني عن التعريف، الذي أبصر نور الحياة في عروس العواصم بغداد/ مدينة الحرية بتاريخ 23/10/1976. بغدادي المولد، ونجفي الأصول، فوراتي الهوى ، حيث نشأ وترعرع وأشتد عوده في الفرات الأوسط وتحديدًا مدينة النجف الأشرف. ينتمي إلى أسرة فراتية، فجده هو الزعيم العراقي الراحل السيد نور الياسري أبرز قادة ثورة العشرين في الفرات الأوسط وأحد مؤسسي الدولة العراقية الحديثة .
تأثر أحمد بوالده المربي الفاضل عبد الرزاق الياسري أستاذ اللغة العربية في مدارس الفرات الأوسط، الذي وافاه الأجل بتاريخ 22/2/2014، عليه رحمة الله، إذ كان مؤلفًا وشاعرًا عموديًا متميزًا، غرس في ولده حُبّ اللغة العربية وجعله يحفظ ثلثي الفية إبن مالك وهو في مقتبل العمر، وهذا في ظني ممّا جعل أحمد متمكنًا من أدواته اللغوية إلى قدرٍ كبير، رغم انتقالاته بين الأدب الشعبي والفصيح .
برزت موهبته الشعريّة منذ نعومة أظفاره؛ حيث أنخرط في مجالات اللغة والشعر والأدب، فنظم أولى قصائده وهو في سنّ صغيرة، حيث كان له من العمر 12 عامًا يوم دبجت أنامله قصيدة فلسطين، وكان مطلعها:
(فلسطين يا درس البطولة والفداء - يا صرخة صعدت لأعناق السماء).
درس الابتدائية والثانوية إلى أن تخرج من أعدادية نبوخذ نصر في مدينة النجف، ليلتحق بكلّيّة التراث الجامعة في بغداد/ قسم القانون، غيرَ أن هجرته إلى إيران حالت دون تخرجه ، بسبب المضايقات التي لاقاها من النظام البعثي السابق، فوالده كان من أبرز قادة الانتفاضة الشعبانية عام 1991، أعتقله النظام البعثي السابق بعد سقوط مدن الفرات الأوسط والجنوب بيد قوات الحرس الجمهوري ، ممّا دفع بالعائلة للفرار بجلدها إلى إيران عام 1995. وهناك سنحت له الظروف بالإنضمام إلى الجمعيات الشعرية والأدبية وانخرط في الكتابة الصحفية كقلمٍ أدبي مختلفٍ في الصحافة المهجرية بعد أن طالع العديد من الكتب، وخالط كبار الشعراء والأدباء، ناهلاً من ينابيع إبداعهم، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: جواد جميل، مُدين الموسوي، ضياء بدران، محمد سعيد الشويلي الذي كان رفيق دربه. نشرَ مقالات وقصائد في صحف المعارضة العراقيّة أبرزها: جريدة بدر، الجهاد، الشهادة، لواء الصدر. وفي سوريا نشر في صحيفتي نداء الرافدين أبرز قصائده التفعيلية ( مخالب الظلام )وجريدة الموقف .
عام 1997 عملّ رغم صغر سنّه في إذاعة صوت العراق الثائر، وهي إذاعة كانت معارضة لنظام حكّم صدام حسين. ثم ذاع صيته في إيران من خلال قصائده العامودية والشعبية. وقرأ من قصائده وشعره أشهر المنشدين العراقيين الذين كانوا يقيمون في إيران، يأتي في طليعتهم المداح الشهير أبو بشير النجفي، عباس الكوفي، جليل الكربلائي، فقصائده المدائحية أصبحت من تراث الأدب الحسيني المنبري حاليًا ، وهو يمتلك تجربةً مهمة في هذا المضمار ، إذ أشتهرت قصيدته ( وين أهل الضماير ) في التسعينات بصوت المداح ( أبو بشير النجفي ).
ومن الجدير ذكره أن الشاعر أحمد الياسري قرأ في عام 1999 قصيدةً عموديةً من بحر الكامل أمام مرأى ومسمع شاعر العراق الكبير عبد الوهاب البياتي، يوم زار البياتي رحمه الله إيران؛ حيث أحتفى به الشعراء العراقيون المعارضون آنذاك .
في أواخر عام 1999 رحلَ مع بعض المعارضين العراقيين بعد إجراءات حكومة خاتمي ضد المهاجرين العراقيين ، ليحط الرحال في استراليا بعد رحلة مائية كانت محفوفة بالمخاطر عبر المحيط ، فقضى ردحًا من عمره في محتجزات اللاجئين بغرب استراليا ثم أقترن بعد خروجه من معسكر كيرتن بنصفه الثاني عام 2001 ورزقه الله بولدٍ وبنات ثلاثة ( علي، زهراء، إسراء، جنى).
في سيدني فعّلَّ المشهد الأدبي والثقافي، إذ عملَ في حقل الصحافة، وكان عموده ( صهيل الجراح) من الأعمدة المهمة في صحيفة التلغراف الشرق أوسطية. كما أقام العديد من الأماسي الأدبية والمهرجانات الشعرية وشارك في العديد من المحافل الثقافية.
نشر أبو جنى العديد من الدراسات الثقافية والشعرية، ولعلّ أهمها من وجهة نظري المتواضعة دراسته النقدية عن سيرة نازك الملائكة التي أعتمدتها الصحافة المصرية بعد وفاتها بوصفها سيرة نقدية.
في عام 2002 ألفَ مسرحية ( ينابيع الغدير ) التي أخرجها وقام ببطولتها صديقنا المخرج الاستاذ منير العبيدي ..
ولعلّ من المفيد ذكره، إنَّ أحمد الياسري يشير إلى أنَّ علاقته بالمسرح كانت قد بدأت من النجف بأشراف أستاذه المؤلف المسرحي النجفي ( غياث البحراني ) مؤلف مسرحية( أبن الأرض ) وكما أنَّ الشيء بالشيء يُذكر، ننوه هنا على أنَّ الياسري كتبَ نصوصًا مسرحية عديدة، أبرزها: مسرحية الصلوات وحرب أستان لفرقة ساوا، فضلاً عن المسرحية الشعرية ( قداس التماثيل ). ولقد أشار أستاذ المسرح في الجامعة العربية بأوروبا الدكتور تيسير الألوسي إلى تجربته في ابتكار فكرة المسرحية القصيرة حين نشر له موقع مسرحيون مسرحية ( برگ تردد ) و( الدم ينزف هادئًا ). إنَّ فكرة الكتابة المسرحية القصيرة بعرف الياسري تشتمل على جميع عناصر المسرح ويتداخل بها حوار الشخصيات دون أن يزيد حجم النص أو يتجاوز الورقة الواحدة، ولعلَّها فكرة متطورة لكتابة المسرح بطريقة قصصية، وربّما شخصية القس التي وظفها الياسري في مسرحية ( الدم ينزف هادئًا ) تشير لهذا المعنى . كما أصدرَ إبن الفرات الأوسط فيلم ( اختطاف كمر)، الذي يُعدّ أول فيلم سينمائي روائي عراقي في أُستراليا عام 2008 .
أُجريت للياسري العديد من المقابلات الصحافية والاذاعية والتلفزيونية أهمها: في تلفزيون SBS الاسترالي، وفي الإذاعة العربية. وفي فضائيات: الجزيرة، العربية، الغد العربي، الشرقية، آفاق، الفرات، الفيحاء، العراقيّة، البغدادية، الديار.
حصل على جوائزٍ متنوعة من مؤسسات مختلفة نذكر منها: جائزة العراقيّة للإبداع عامي 2006 – 2012 في سيدني.
كما كُرّم بساعة الجواهري في مهرجان الجواهري الذي أُقيم في بغداد عام 2010، وكرمته فضائية الفرات بـ( درع الفرات) حين عاد من منفاه الاسترالي وقدم البوم ( موال حب الوطن ) عام 2006 بعد غربة طويلةٍ شارك بمهرجان بغداد الذهبي عام 2009 . كما كرمته فضائية الأنوار في الكويت بـ( درع) الشعراء المبدعين عن اسهاماته في الشعر الحُسيني.
وإن نسيت فلا أنسى قصيدته التي القاها في مهرجان رابطة البياتي الأول في سيدني بحضور كبار الشعراء العراقيين والعرب في المهجر الأُسترالي؛ حيث القى (قصيدة الدفان) التي حبس بها انفاس الجالسين ، ومن ثّمَّ لقيت استحسانًا على مواقع التواصل الإجتماعي، فاستحق ليلتها أن يُقلد بقلادة البياتي للإبداع الشعر والأدبي.
إنّه الشاعر المرموق أحمد الياسري مدير تحرير صحيفة العراقيّة الأُسترالية الذي شكلَّ ثنائيًا متالقًا مع صديقنا الدكتور موفق ساوا منذ تأسيس جريدة العراقية إلى يومنا هذا، وقد لا يغيب عن العارفين بإنَّ " العراقيّة" تُعدّ أحد أكثر الصحف العراقية والعربية في القارة الاسترالية انتشارًا، وأَعاد للصحافة الشعبية التي غُيبت طويلاً رونقها بالصحافة المهجرية عبر عموده ، ( طك بطك) الذي يعرفه القاصي والداني منذ تأسيسه عام 2006، وقد نقل أبو عليوي عموده المقروء ليجعله مشاهدًا عبرّ صفحته في الفيس بوك، حيث تتناقل منه الفضائيات والإعلاميون القصص والمشاهدات الطريفة كما فعل الإعلامي العراقي ( وجيه عباس ) حينما حول مقالات عمود طگ بطگ إلى حلقات تلفزيونية ناقدة حققت انتشارًا واسعًا في العراق ، وأذكر أنّني اتصلت به حينها وأبلغته رأيي بنقل العمود من مكتوب الى مرئي ٍ فتقبل الرّجل الأمر بصدرٍ رحب، وطلب مني أن أسجل رأيي في تعليق على أول فيديو مصور ظهر له عن عمود طك بطك، حيث كنت أول من أبدى الرأي فيه، فقال لي الياسري يومها: "حضرة الأب يوسف أنت تمتلك رؤية نقدية أدبية بمواصفات كهنوتية ..تدلّ على صبر الكاهن وقدرته على اقتناص لحظة التحول الإبداعي التي تظهر في كتاباتك بشكلٍ مُلفت، فلا يسعني ألّا أن انحاز بكلّ فخر لسليقتك الإبداعية ".
يرى الياسري أنه ليس شاعرًا غنائيًا، وإنْ كان قد غنى له بعض المطربين كحاتم العراقي، وحسن غالي، حسن الرسّام، دالي،لبنى گمر ، ناصر الحربي، رائد عادل، موشي كوريال، سوزن ازريا، عماد الملوك الذي غنى له غنوة أولاد عمو بابا. ويرى أيضًا أنه أثبت للجميع أنَّ الكتابة جنسٍ واحدٍ من خلال تجربته الذاتية، فقد تناول الناقد الأكاديمي الدكتور خيرالله سعيد تجربته في مزج الأوزان الشعبية بقصيدته ( موال طوائف العراق ) الذي مزج به بين الوزن النصاري وروح الموال الزهيري الشعبي، وعدَّ هذه التجربة متطورة في كتابة الشعر الشعبي العراقي بدراسة خاصة .
يمتلك الياسري شخصية قوية، شديد المراس، تجعله يبدو متعاليًا في نظر البعض، لكن المرء متى ما تعرف عليه عن قربٍ سيدرك طفولة القلب الذي يحمله، فقلبه الأبيض لا يضمر إلّا المحبة للآخر، متعاونٌ مع الجميع، سيّما ونحن في غربةٍ تحتّم علينا التعاون والتكاتف مع بعضنا بغية التغلب عليها.
ذاك هو أحمد الياسري الشاعر العراقي الذي حفر أسمه اللامع في تاريخ الصحافة العربية المهجرية الذي أثارت كتاباته اهتمامي منذ سنوات، فتابعته بتقديرٍ مستمر إلى أن جمعت بيننا ظروف مختلفة ومناسبات عديدة ورسالة الأدب المقروء في صحيفة العراقية، فضلاً عن صداقة نبيلة، هذه كلّها جعلتني أكثر قربًا منه وفهمًا له وتعاونًا معه. وكثيرة هي المحادثات الأدبية المتبادلة بيننا، فلا يختلف شخصان بأنَّ للرّجل قيمة كبيرة في مشهدنا الإعلامي والثقافي، ويهمني هنا أن أشير إلى ما يتصف به السيّد الياسري من كبرياء الصحفي وسمو الشاعر، والحرص الشديد على الكرامة والاعتزاز بالنفس مع الشجاعة في إبداء الرأي والخروج عن المألوف بأفكارٍ غير تقليدية، طلبًا للتطور والإبداع، ولمزيد من المعرفة الموسوعية التى يسعى إليها.. كما أنّه يميل إلى الوحدة والتأمّل والإستغراق في التفكير، لتدوين تفاصيل عالقة في جسد الذاكرة، وهو يستمع إلى صوت الذات في كلامٍ صامت.
ولا أجد حرجًا بقولي: كان يمكنه أن يعيشَ حياة أكثر هدوءًا، ولكن ذلك الشاعر العراقي المتميز والمثابر، أختار دائمًا أنْ يكونَ صوتًا لمن لا صوت له، وأنْ يُعبِّر عن قناعاته بضميرٍ حي في إنصاف المظلومين ممّن همشتهم الحياة مهما كان الثمن غاليًا والتكلفة باهظة، يدافع عن قضيتهم مهما كانت التضحيات، وفي ظني هنا تكمن رسالة الأديب أو الشاعر الحقيقي.
كتبتُ هذه السطور تحيةً له وتقديرًا لشخصه وعرفانًا مني بدوره على المستويين الصحفي والثقافيّ، واستعداده للتضحية من أجل الغايات النبيلة والأهداف السامية، إضافة إلى رسالته المرموقة كصحفيٍ لامع في خدمة ٍأبناء الجالية بمرافئ المهجر الأسترالي. هذه تحية إليه وإلى جيلٍ أنتمي له وأفاخر به.
0 comments:
إرسال تعليق