يوم الأربعاء 17 أيلول/سبتمبر 2014، اقام "مركز الحوار العربي" في منطقة واشنطن أمسية خاصة مع الدكتور عامر الجبوري حول الطبعة الجديدة من كتاب والده، صالح صائب الجبوري، الفريق الأول الركن في الجيش العراقي سابقاً، ورئيس أركان الجيش العراقي خلال حرب فلسطين عام 1948.
وقد عرض الدكتور عامر الجبوري خلال الأمسية هذا الملخص عن الكتاب (محنة فلسطين):
لـــــــو اراد القاريء أن يدقق في محنة فلسطين في حرب 1948 لما وجد أفضل من مذكرات صالح الجبوري القائد العسكري الذي اشرف على القوات العراقية المقاتلة في فلسطين ليفعل ذلك. مذكرات الجبوري ستمسك القاريء من يده وتسير به لا عبر تفاصيل المعارك القتالية وتقنيات التكتيك العسكري وتعقيدات الآستراتيجية العسكرية فحسب ، بل عبر دهاليز السياسة بما فيها من هيمنة ومقاومة ومؤامرة وتهافت.
هي قراءة موجعة في الدرجة الرئيسة بالرغم من أن الجبوري كتب مذكراته بإنضباط العسكري, والتزام القائد الحربي بالتحليل الموضوعي والوصف الدقيق البعيد عن ردود فعل قد تسمى عاطفية . ولكنك مع ذلك تقرأ تحليله الموضوعي وما زلت تشعر بألمه, والذي سرعان ما يصبح ألمك انت لسبب بسيط جداً : لقد جسد الجبوري في رؤيته لوقائع الحرب في فلسطين وجهة نظر قواته العراقية في المعركة. ولأن الجيش العراقي كان الجيش الوحيد الذي دافع عن فلسطين وكأنها جزء من ترابه الوطني دون مراوغة او مماطلة او تخاذل او تآمر من قبل قيادته السياسية ، وكان الوحيد من بين جيوش الدول الاخرى الذي نجح في الحفاظ على الأراضي التي التزم بحمايتها والدفاع عنها في وجه القوات اليهودية المتقدمة دون هوادة, فإن موقفه يغدو كما لو كان موقف الفلسطينيين انفسهم. أي اننا لو اردنا ان نبحث عن نظرة موضوعية لوقائع حرب 1948 لما وجدنا افضل من وجهة نظر الجيش العراقي لالتحامها مع هم فلسطين ومهمة تحريرها التحاما يكاد يكون تاما.
ولا مجال هنا للمبالغة في الرواية أو التلفيق أو التنميق ، فمذكرات الجبوري عن حرب فلسطين موثقة برسائله وبرقياته ومخاطباته ، الموجهة إما للقيادة العسكرية على جبهة القتال في فلسطين بما فيها من أوامر حربية لمعالجة الأمور الطارئة في الميدان, أو موجهة لرؤسائه وزير الدفاع او رئيس الوزراء يضمن فيها تحليله للأوضاع العسكرية وهي تتغير بسرعة هائلة فيؤسس عليها نصيحته للقيادة السياسية, أو تفاصيل ودقائق اجتماعاته مع سياسيي وعسكريي الدول المشاركة في الحرب ينقلها الى رؤسائه يستنصحهم ويستشرف اوامرهم. وقد ملآت هذه النصوص صفحات الكتاب بشكل لا يترك عند القارئ اي شك بصدق الرواية والرؤية.
في هذا الصوت العراقي العسكري الموّثق الناقد والمحتج دوماً على الإنحراف, يختلط وجع فلسطين بوجع العراق بوجع العرب اجمعين ، فهزيمــــــــــة الجيوش العربية في فلسطين لم تؤد إلى خسارة الأراضي الفلسطينية للمشروع الصهيوني فقط ، بل الى تكريس الضعف السياسي العربي لعقود تلت ، تماماً كما تنباْ الجبوري في إحدى رسائله. هو صوت وتحليل عسكري وسياسي يشيرالى حقيقتين قد تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين :
اولاهما: أن المصاعب التي واجهتها جيوش الدول العربية وقيادتها السياسية في حرب فلسطين عام 1948 كانت قاهرة مانعة بحاجة الى إرادة سياسية وعسكرية جبروتية للتغلب عليها,
ثانيتهما : إن التغلب على هذه المصاعب او على الأقل على بعضها لم يكن مستحيلاً بل في متناول العرب لو ارادوا. لماذا؟ لأن السلوك العراقي السياسي والعسكري اثناء الحرب كان مثالاً على الأرادة المقاومة والمجسدة لمهمتها تجسيدا حقيقيا.
قد تكون خسارة الحرب قدرا لم يكن باستطاعة العرب تجنبه, لكن مقدار الخسارة وحجهما لم تكن قدرا على الاطلاق.
في رواية الجبوري عن حرب 48 نتبين بأن حكومات الدول المشاركة في الحرب كانت ما زالت في ذلك الحين فتية سياسياً, ولو انها كانت من الناحية الشكلية " مستقلة ". فتبعيتها للمستعمروخاصة بريطانيا كانت ما زالت قائمة وبشكل محسوس اثر الى حد بعيد بمستوى وطبيعة اداء جيوشها في الحرب. فنرى الجيش العراقي مثلا يلجأ إليها لتجهيز عتاده من لأسلحة والذخيرة فلا يلقى منها سوى المماطلة والتسويف مما يشي عن نيتها بافشال المهمة العسكرية. فيضطر الجيش الى اللجوء إلى مصادر اخرى للتسلح فيشتري عتاده من موردي سلاح غير معروفين, بتكلفة اعلى لبضاعة غير مضمونة!
ونرى شبح بريطانيا في خلفية القرارات السياسية المصرية في الحرب ، فهي تارة (مصر) تحرك جيشها عسكرياً بطريقة مريبة وبإستقلال عن الإرادة العربية الجمعية, ثم تسرع إلى الهدنة مع اسرائيل دون التشاور مع الدول الاخرى ، تفعل غير ما تلتزم به، ويكذب ممثلوها في روايتهم عن وقائع تحركات جيشهم العسكرية. اما الاردن ، فحدث ولا حرج. فتبعيتة لبريطانيا كانت رسمية واضحة حيث كان البريطاني جلوب باشا يحتل مرتبة رئيس هيئة اركان الجيش الاردني وكان الضباط البريطانيون يرأسون وحداته العسكرية. وقد ادت السيطرة البريطانية على هذا الجيش بالقيام بتحركات مشبوهة عديدة في الحرب يرويها الجبوري بمذكراته بالتفصيل, كانت في كثير من الأحيان ضارة للغاية عرضت القوات العسكرية العراقية للخطر وجعلتها مكشوفة لهجمات القوات اليهودية.
تأثير بريطانيا على مجريات الحرب كان حاضراً بقوة في 1948 ، ليس عن طريق اضعاف القدرة العسكرية للجيوش العربية بالتسويف والمماطلة في تجهيزها عسكرياً وبالتأثيرمن وراء الكواليس على قرارات حربية عربية كانت تثير الـريبة عند المراقب للأحداث فحسب، بل و بالدفع ايضا ألى إنجاح المشروع الصهيوني عن طريق مساعدة القوات اليهودية في إستغلال تقدمها العسكري للسيطرة على أوسع منطقة ممكنة من الاراضي الفلسطينية. وكان الجانب البريطاني ومعه الامريكي مهتمين بتسليح وتدريب الجانب اليهودي والتغطية الديبلوماسية لخروقاته لشروط الهدنات اثناء الحرب, وكان واضحاً أن بريطانيا قد إستخدمت قوتها الدبلوماسية والسياسية للتاثير على القرارالسياسي العربي لمصلحة القوات اليهودية.
مذكرات الجبوري بتوثيقها المتتابع للقرارات العراقية السياسية والعسكرية تُذكرنا بأن الحقيقة المفجعة لم تكن تبعية الحكومات العربية للقرار البريطاني ، وإنما درجة هذه التبعية. فالعراق اثناء حرب ( 48 ) وحسب مذكرات الجبوري كان مثالاً لمقاومة هذه التبعية وتحدّيها ومواربتها. ومما لاشك فيه بأن سياسة المقاومة والتي إتحدت فيها القيادة العراقية السياسية مع العسكرية قد أتت اكلها على الأرض. يسجل التاريخ بأن قتال الجيش العراقي في فلسطين كان الأكثر كفاءة وقدرة, الأمر الذي جعل القوات اليهودية تحسب حسابه لدرجة انها كانت تتحاشى الاشتباك مع مباشرة ولجأت الى الايقاع به من خلال الجيوش العربية الأخرى عن طريق استغلال تبعيتها البنيوية لبريطانيا. نعم كان القرار البريطاني عاملاً في إضعاف الجيوش العربية ، ولكن من المؤكد ايضاً أن العراق قّدم نموذجاً مغايراً في مقاومة هذا القرار والتحايل عليه ،الأمر الذي يظهر ان درجة تبعية الآخرين لبريطانيا لم تكن سوى خيارا سياسيا من قبل الحكومات العربية وهومعيب أخلاقياً ويستحق ان تسأل عنه لا من قبل شعوبها فحسب ولكن بالدرجة الأولى من قبل الشعب الفلسطيني الخاسر الأعظم.
تزداد الصورة تعقيداً عندما يأخذنا توثيق الجبوري للأحداث إلى الدور الذي لعبته القيادة الأردنية في حرب 1948 لا من حيث تبعية قرارها السياسي لبريطانيا فحسب ولكن من حيث طموحات الملك عبدالله ونواياه تجاه الأراضي الفلسطينية التي لم تقع في قبضة الصهاينة. وحسب رواية الجبوري فأن التحدي الأعظم للجيش العراقي في ذلك العام المشؤوم كان قيادة الجيش الأردني التي لم تقل خطورتها عن خطورة القوات اليهودية!
كانت القيادة العراقية سواء منها السياسية أو العسكرية, تتعامل مع ثلاث أجندات في نفس الوقت. فهناك ظاهر قول الملك عبداللة ونيته المعلنة في الإجتماعات التي كان يحضرها للقيادة العربية المشتركة ،والتي كان يتفق فيها مع الارادة الجمعية. لكن التصرفات اللاحقة للجيش الأردني والتي يشتم منها رائحة الإنصياع للقرار البريطانيكانت تنتهي اما بالتراجع الجزئي او الكلي عما تقرر. فوق هذا وذاك كانت التحركات السياسية الخفية للملك والتي لا يفتأ اثرها يصل القيادة العراقية, تشير الى وجود" صفقات " و "اتفاقات" لتقسيم المنطقة الغربية من فلسطين إلى مناطق يُدافع عنها الجيش الأردني جدياً ومناطق يتظاهر وكأنه يفعل!
هذه الإتفاقات الخفية التي يستشرقها القاريء من مذكرات الجبوري تلمح الى حقيقة يصعب انكارها: أن الأردن بالذات, من بين كل الدول المشاركة في الحرب, كان له أجندة خاصة لا تختلف كثيرا عن أجندة الصهاينة. هو كما هم له مطامع في الإستيلاء على ارض فلسطين لا لتحريرها وإعادتها إلى اهلها كما فعل الجيش العراقي ، وإنما للإحتفاظ بها وإلحاقها بدولة شرق الأردن الفتية. طبيعة هذه الأجندة تجلت للقارئ بالتدريج مع تتبع تطورات الحرب: أحيانا ينسحب الجيش الأردني من بعض المناطق دون محاولة الدفاع عنها,وأحيانا اخرى يكشف ظهر الجيش العراقي في بعض المناطق دون سبب واضح, وحين يأذن الوقت للجيش العراقي بالانسحاب من فلسطين وتسليم الأراضي التي دافع عنها وحافظ عليها الى الجيش الأردني, يماطل ألأخير في استلامها,و يسرع الملك عبداللة بعد انتهاء الحرب بعقد مؤتمر أريحا لضم الضفة الغربية للإردن رداً على مؤتمر غزة والذي أعلن إنشاء دولة فلسطين, وهكذا!
ولا ينتقد الجبوري العسكريين الاردنيين انفسهم ، بل أنه يشهد انهم قاتلوا قتالاً باسلاً في كثير من المواقع ، لكن روايته تتحدث عن قرارات سياسية وحربية من قبل القيادة السياسية للأردن تشيرالى نوايا توسعية عند ملكه ساهمت في افساد دور الجيش الأردني القتالي في حرب 1948.
ان مماطلة القيادة الأردنية في تسلم الأراضي المحررة من القوات العراقية والإمتناع عن تسلمها حسب الإتفاق المعقود مع القيادة العسكرية العراقية أثار شبهة أن الاردن ماطل ليعطي فرصة للقوات الهودية بالأستيلاء على بعض هذه الأراضي. اي أن الأردن لم يتخل عن أراض فلسطينية بالامتناع عن الدفاع عنها في بعض الأحيان فحسب ، بل انه تخلى ايضاً عن الأراضي التي دافع عنها العراقيون دفاعاً مستميتاً.
ولابد هنا من التاكيد ان القيادة السياسية والعسكرية في العراق قد قدمت ما في وسعها من عتاد وجيش نظامي وإنضباط عسكري و سعي دبلوماسي لا يهدأ ولا يستكين من اجل فلسطين. فهي لم تتوان عن كشف جبهتها الداخلية حينما سحبت آخر لواء لها في العراق ونقتله الى الجبهة عندما إستدعت الحاجة لذلك، ولم تتوان عن كشف ظهر قواتها لسحب بعض منها لمساعدة القوات المصرية المحصورة في الفلوجة ، كما أنها إضطرت لملئ الفراغ العسكري في بعض مناطق فلسطينية والتي كان لزاماً على الجيش الاردني الدفاع عنها!
إن نجاح الجيش العراقي في الدفاع عن المناطق الفلسطينية التي كان منوطا به ان يحميها بالرغم من المصاعب والمشاكل التي جابهها لا اقلها ضعف المساندة من الجيش الأردني ،وبالرغم من شرذمة القوات العراقية بارسالها للقتال على عدة جبهات، وبالرغم من تنامي القوة العسكرية للقوات اليهودية والتي تعهدت الدول الغربية بتزويدها المستمر غير المنقطع بما تحتاجه من العتاد العسكري, ان نجاح الجيش العراقي بالرغم من كل هذا خصوصاً في ظل قيادة عراقية سياسية لم تتوانى عن دعم قيادتها العسكرية, جعل العراق في وضع تفاوضي متميزعلى عكس ما حدث في الجبهات الأخرى. فبينما إختارت الدول العربية الاخرى أن تتوقف عن القتال وتسرع الى إبرام إتفاقات هدنة مع إسرائيل ، لم يفعل العراق ذلك ولم يشعر بأنه مضطر لفعل ذلك. ولكن ماذا يفعل العراق وقد تراكضت حوله الدول ألأخرى المشاركة في الحرب لعقد إتفاقات وقف القتال في إطار هدنة مع إسرائيل؟
إن تمسك العراق بأراضي فلسطين التي انقذها من القبضة الصهيونية وعدم إبرام هدنة مع إسرائيل في حين فعلت ذلك دول اخرى ، عقد الصورة الأخلاقية والقانونية بشأن فلسطين بل أنه أنشأ وضعا قانونيا وأخلاقيا تحكم في مصير فلسطين وشعبها لعقود تلت.
نستطيع القول بأن موقف العراق يمثل الموقف المعياري الأصلي تجاه فلسطين وهو أن فلسطين ، كل فلسطين ، بكل بساطة عربية. أنه الموقف الرافض للمشروع الإستيطاني الصهيوني وللمهادنة معه بأي شكل من الأشكال. وهو موقف سياسي تجسد أساسا بالأداء العسكري العراقي والمنطلق من مبدأ الدفاع عن ارض فلسطين حتى النهاية ، وفق خطة عسكرية ذكية وتجهيز عسكري تام. وهو الموقف المعياري الذي يتماهى مع موقف شعب فلسطين والشعوب العربية في شأن فلسطين سواء في تلك الفترة التاريخية أو الآن.
وقد كان هذا الموقف هو الذي دفع بالجيوش العربية لدخول فلسطين أصلا حين رفض الفلسطينيون قرار الامم المتحدة عام 1947 تقسيم ارض فلسطين الى دولة يهودية وأخرى عربية وقرروا الدفاع عن أراضيهم ورد الهجمة الصيهونية عنها.
ولكن وكما يذكرنا الجبوري في مذكراته فأن القوات اليهودية خلال حرب 1948 لم تسع للسيطرة العسكرية على المناطق التي اصبحت من نصيبها حسب قرار 1947 فحسب, بل انها ما فتئت تتقدم الى المناطق الاخرى التي كانت من نصيب الدولة الفلسطينية حسب نص القرار, وقد تمكنت من السيطرة العسكرية على جزء منها.
فاذا أخذنا بعين الاعتبار سيطرة القوات اليهودية على أراض تزيد عما منح لها قانونيا حسب قرار 1947, والتي سارعت باعتبارها جزءا لا يتجزا من اراضي الدولة اليهودية الجديدة, (هذا لو افترضنا ان القرار يمكن ان يكون مصدرا قانونيا يحدد ما هو شرعي وما هو غير شرعي في تصرفات الدول المحاربة في ضوء الرافض القاطع للفلسطينيين لهذا القرار عند اصداره), فان من شأن ذلك ان يجعل السلم المعياري القانوني والأخلاقي بشأن فلسطين أكثر تعقيدا. اننا الآن امام ثلاث مواقف معيارية محتملة للقضية الفلسطينية: أولها موقف يقول بأن فلسطين, كل فلسطين, دولة عربية يجب تحريرها من المشروع الصهيوني الاستيطاني تحريرا جذريا, وآخر يقول أن الفلسطينيين لهم الحق في أقامة دولة فلسطينية على الأراضي المخصصة لهذه الدولة حسب نص قرار 1947 وبالتالي يجب انسحاب القوات اليهودية من الاراضي التي احتلتها وكانت من نصيب تلك الدولة, وموقف ثالث يقول بأن للفلسطينيين الحق في اقامة دولة فلسطينية في المناطق التي لم تقع في قبضة القوات اليهودية خلال حرب 1948 فنعتبر نتائج الحرب اساسا معياريا لتوزيع المكتسبات والخسائر بين الأطراف المتحاربة!
وليت أن الأمور توقفت عند هذا االتفصيل المعياري للمواقف المحتملة تجاه فلسطين, فاذا بنا نشهد مشروع الدولة الفلسطينية يصبح رهنا في النهاية بإتفاقات الهدنة التي وقعتها الحكومات العربية مع دولة اسرائيل الحديثة من حيث كيفية تعريف هذه الحكومات خط الهدنة بينها وبين اسرائيل . وفي حالة الأردن بالذات أدى ذلك الى التنازل عن مكتسبات حربية (التنازل عن منطقة المثلث لاسرائيل), وذلك لأن طموحات الملك عبداللة بالهيمنة على الأراضي المحررة قد دخلت في اعتبارات التفاوض مع أسرائيل (كما اثبتت ذلك الأحداث اللاحقة لتوقيع الهدنة برعايته مؤتمر أريحا عام 1949الذي دعا الى ضم الضفة الغربية للأردن ردا على مؤتمر غزة الذي سبقه بعدى أسابيع والذي أكد على فلسطينية هذه الأراضي وعلى اعتبارها جزءا من الدولة الفلسطينية). فيكون بذلك الملك عبد اللة قد أعاد تعريف مفهوم الدولة الفلسطينية بطريقة جذرية بعد قرارالضم عام 1950, إذ لم يبق من فلسطين فلسطينياً سوى غزة والتي وقعت تحت السيطرة الإدارية المصرية!
اذن من وجهة النظر العراقية غير المهادنة, وفي ضوء ما سبق, كيف يكون موقف العراق؟ ما هي النتائح المترتبة, يسأل الجبوري, على إتفاقات الهدنة في رودس 1949؟ هل هي بمثابة إعتراف بأحقية إسرائيل السيطرة على الأراضي التي منحها إليها قرار 1947 وعدم شرعية استيلائها على بقيـــــــــة ألأراضي؟ ام هل هي إعتراف بالامر الواقع : سيطرة القوات اليهودية على الأراضي اليهودية وما يزيد؟ هل يستنتج منها تعهدا بعدم تحدي الأمر الواقع عسكرياً والا كان بثابة إعتداء غير محق على اسرائيل من وجهة النظر الدولية؟ فإذا التزم العرب بهذا الالتزام فعلياً ايكون موقفهم ذلك بمثابة اعتراف بدولة اسرائيل بحدود الأمر الواقع؟ وهل يغير شيئا أن الدول العربية المهادنة لم تعترف بإسرائيل رسمياً ولم تدخل معها في إتفاقيات سلام ( الا في وقت لاحق)؟ فاذا لم تعتبر هذه الدول هدنتها مع اسرائيا بمثابة اعتراف بها, ألا يقع على عاتقها مهمة الإستعداد العسكري والدبلوماسي والسياسي في الفترة اللاحقة للهدنة لمواجهة اسرائيل ومحاولة تفويض شرعية إنشائها فتؤكد بذلك التزامها بالموقف المعياري الأصلي بأن فلسطين بلد عربي اولاً وأخيراً؟ اسئلة كثيرة يطرحها الجبوري في اعقاب حرب 1948 وينصح في رسالة بعث بها الى رئيسه وزير الدفاع بتبني العراق والدول العربية الموقف الأخير: موقف المقاومة اللا مهادنة.
من المعلوم طبعاً أن الدول العربية المهادنة لإسرائيل قد حافظت على هذا الإبهام المعياري لفترة طويلة بعد إتفاقيات رودس, فهي لم تعترف بإسرائيل رسمياً ولم تعقد معها إتفاقيات سلام ولم تجهز العدة العسكرية والدبلوماسية لتفويض شرعية اسرائيل بطريقة منظمة وفعّالة، حتى عندما تصدى لها جمال عبدالناصر لاحقاً في حرب 1967!
كل ما فعلته هذه الدول انها طالبت ، بعودة اللاجئين الى بلادهم! اي ان الموقف الحقوقي تجاه فلسطين اختزل في قضية اللاجئين وهي القضية التي كان للدول المحيطة بفلسطين مصلحة مباشرة وذلك للأثر الملّح والاشكالي على هذه الدول من ناحية كيفية إستيعاب هؤلاء اللاجئين في أراضيها!
إن مذكرات الجبوري في تسجيلها وقائع حرب 1948 من وجهة نظر الجيش العراقي تعود بنا الى هذه الأحداث لتذكرنا بأن الإختلاط المعياري تجاه قضية فلسطين, والانصياع بحكم الأمر الواقع في وجه المكتسبات الصهيونية على الأرض, والذي نقبله في واقعنا اليوم دون التفكر فيه كثيراً,, يعود بجذوره إلى حرب 1948 بما انتجته هذه الحرب من ابهام اخلاقي احاط بالسلوك العسكري والسياسي لبعض ألأطراف العربية المشاركة في حرب فلسطين.
0 comments:
إرسال تعليق