جرياً على عادتي في التعاطي مع المناسبات القومية والوطنية والمحطات العربية التاريخية الهامة، أرى ضرورة أن أتوقف اليوم عند ذكرى مذبحة كفر قاسم التي ارتكبها الإرهابيون "الإسرائليون" في خمسينات القرن الماضي لألقي بعض الأضواء على هذه المحطة الهامة في مسلسل الإرهاب "الإسرائيلي" المتواصل ضد الشعب الفلسطيني بشكل خاص والشعب العربي بشكل عام.
مذبحة كفر قاسم النكراء راح ضحيتها 49 مواطنا من قرية كفر قاسم في المثلث الفلسطيني ، حيث كانت القرية في ذلك الحين تقع على الخط الأخضر بين "إسرائيل" والمملكة الأردنية الهاشمية. ففي 29 تشرين الأول من العام 1956 قام حرس الحدود "الإسرائيلي" بقتل 49 مدنيا عربيا بينهم نساء و23 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 8 و 17 سنة .
يومها أعلنت قيادة الجيش "الإسرائيلي" المرابطة على الحدود "الإسرائيلية" - الأردنية نظام حظر التجول في قرى عربية داخل "إسرائيل" ومتاخمة للحدود هي كفر قاسم، وكفر برا، وجلجولية، والطيبة، وقلنسوة، وبير السكة، وإبثان، وأوكلت مهمة تطبيق حظر التجول إلى وحدة حرس الحدود بقيادة ضابط برتبة رائد يُدعى شموئيل ملينكي، على أن يتلقى المذكور الأوامر المباشرة من قائد كتيبة الجيش المرابطة على الحدود يسخار شدمي. وبالفعل أعطيت الأوامر له بأن يكون منع التجول بين الساعة الخامسة مساء والساعة السادسة صباحا. وطلب شدمي من ملينكي أن يكون تنفيذ منع التجول حازمًا، وليس باعتقال المخالفين وإنما بإطلاق النار عليهم! وقال له: "من الأفضل أن أرى قتلى على أن أواجه تعقيدات الاعتقال...ولا أريد عواطف...". جمع ملينكي قواته وأصدر الأوامر الواضحة بتنفيذ حظر التجول دون اعتقالات وأخبرهم بأن "من المرغوب فيه أن يسقط بضعة قتلى"!!
وزعت المجموعات على القرى العربية في المثلث، واتجهت مجموعة بقيادة الملازم جبريئل دهان إلى قرية كفر قاسم حيث وزع هذا مجموعته إلى أربع زمر، رابطت إحداها عند المدخل الغربي للبلدة. وفي الساعة 16:30 من اليوم نفسه استدعى رقيب من حرس الحدود مختار كفر قاسم وديع أحمد صرصور وأبلغه بقرار منع التجول وطلب منه إبلاغ الأهالي بتنفيذ القرار خلال نصف ساعة فقط. وعندما أبلغه المختار إن هناك 400 شخص يعملون خارج القرية ولم يعودوا بعد وأن النصف ساعة لا تكفي لإبلاغهم، وعده الرقيب بأن يأذن للعائدين بالمرور على مسؤوليته ومسؤولية حكومته!!
بعد مضي النصف ساعة وتحديداً في الساعة الخامسة مساء بدأت المذبحة في طرف القرية الغربي حيث رابطت وحدة العريف شلوم عوفر فسقط 43 شهيدًا، وفي الطرف الشمالي سقط 3 شهداء، وفي داخل القرية سقط شهيدان. أما في القرى الأخرى فقد سقط صبي عمره 11 سنة شهيدًا في الطيبة، وكان من بين الشهداء في كفر قاسم 10 أطفال و 9 نساء.
شهدت القرية إطلاق نار كثيف أصاب تقريبا كل بيت من بيوتها. وحاولت الحكومة "الإسرائيلية" إخفاء الأمر إلا أن أنباء المجزرة كانت قد بدأت تتسرب، مما فرض عليها إصدار بيان أفاد بتشكيل لجنة تحقيق. وتوصلت اللجنة إلى قرار قضى بتحويل قائد وحدة حرس الحدود وعدد من مرؤوسيه إلى المحاكمة العسكرية. إستطاع عضوا الكنيست توفيق طوبي ومئبر فلنر اختراق الحصار المفروض على المنطقة يوم 20/11/1956 ونقلا الأخبار إلى الصحافي أوري أفنيري.
استمرت محاكمة منفذي المجزرة حوالي عامين، وفي 16/10/1958 صدرت بحقهم الأحكام التالية: حكم على الرائد شوئل ملينكي بالسجن مدة 17 عاما وعلى جبريئل دهان وشلوم عوفر بالسجن 15 عاما بتهمة الاشتراك بقتل 43 عربيا، بينما حكم على الجنود الآخرين بالسجن لمدة 8 سنوات بتهمة قتل 22 عربيا. لم تبق العقوبات على حالها إذ قررت محكمة الاستئنافات تخفيفها: ملينكي- 14 عاما، دهان- 10 أعوام، عوفر- 9 أعوام. جاء بعد ذلك قائد الأركان وخفض الأحكام إلى 10 أعوام لملينكي، و8 لعوفر و4 أعوام لسائر القتلة. ثم جاء دور رئيس الدولة الذي خفض الحكم إلى 5 أعوام لكل من ملينكي وعوفر ودهان. وبعده أعطت لجنة تسريح المسجونين أوامرها بتخفيض الثلث من مدة كل من المحكومين. وهكذا أطلق سراح آخرهم في مطلع عام 1960. أما العقيد يسخار شدمي، صاحب الأمر الأول في المذبحة فقد قدم للمحاكمة في مطلع 1959 وكانت عقوبته التوبيخ ودفع غرامة مقدارها قرش "إسرائيلي" واحد.
تجدر الإشارة إلى أن مذبحة كفر قاسم ارتكبت في اليوم الأول للعدوان الثلاثي الذي شنته كل من بريطانيا وفرنسا و"إسرائيل" على جمهورية مصر العربية. وكانت المذبحة واحدة من المذابح والمجازر الوحشية الكثيرة التي ارتكبها الجنود والمستوطنون "الإسرائيليون" بحق الفلسطينيين والعرب في سياق مسلسل إرهاب "إسرائلي" متواصل على مدار ستة وستين عاماً، هي عمر النكبة الكبرى للفلسطينيين وكل العرب!!
كوبنهاجن 2014
محمود كعوش
كاتب فلسطيني مقيم بالدانمارك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
0 comments:
إرسال تعليق