في وخلال مشوار حياتي مررت بالعديد من الأصفار۔ هؤلاء ليسوا أصحاب علامات تذكر وليسوا كذلك في الحسبان. إلا أن الذين يعلقون في الذاكرة هم الأقل من الصفر. هؤلاء لا أستطيع سوي أن أقوم بوضعهم في منصة خاصة تليق بقدراتهم والتي اههلتهم أن يحتلوا مكانة دون مستوي الصفر.
زمان أيام المدرسة الإبتدائية كانت الوالدة رحمها الله تغضب أشد الغضب عندما كنا نعود إلي المنزل نسب ونلعن من سرق من شنطتنا السندويتش. كانت تقول لنا وما أدراك ربما من أخذ السندويتش -لاحظوا أنها كانت تقول أخذ السندويتش ولم تقل من سرق الساندويتش -، المهم، كانت تقول وما أدراك أن من أخذ السندويتش ربما يتيم جائع ليس له أم تقوم بتحضير السندويتش له أو ربما من عائلة فقيرة لا تسمح لهم ظروفهم مجرد أن يوفروا لهذا الطفل سندويتش يأخذه معه في هذا أليوم. يجب عليك أن تقول الحمدلله أن جعلني أحد أسبابه وأن يسر لمن أكل هذا السندويتش لقمة ربما هي كل ما سيأكله في هذا اليوم. لم نكن نفهم ونحن صغار مدي وعظمة هذه الكلمات التي كانت تقولها أمي لنا. في المقابل كانت تثور ثاءرتها عندما نعود من المدرسة علي سبيل المثال وتكتشف أن أحداً ما قام بسرقة المحاية من شنطتنا وكانت تقول أن من سرق المحاية هو أقل من الصفر. هذه العبارة لم نكن أيضاً نفهم معناها أو أن ندرك مغزي تلك العبارة. ربما لأننا في المملكة العربية السعودية كانت الحكومة السعودية تقوم بتوفير كل مستلزمات الطلبة. من المحاية والدفاتر والكتب وحتي ملابس الرياضة والأحذية الرياضية كنا نقوم بإستلامها في بداية كل عام بل ويزيد علي ذلك جبال الدفاتر والأقلام المتوفرة لنا طوال العام الدراسي ربما كانت سرقة المحاية بالنسبة لأمي لا تتساوي مع سرقة السندويتش بأي حال من الأحوال وكانت تقول إن من يقوم بتدنئة نفسه أن يقوم بسرقة محاية فهو أقل من الصفر .. أقل من الصفر ..
الأستاذ عبدالله كان أحد علامات المدرسة في الصرامة والشدة والحزم. والجميع متفقين علي أنه أستاذ مكروه ومحبوب في نفس الوقت في تلك المدرسة۔ كانت للأستاذ عبدالله شخصيتان. شخصية في الفصل وفي ممرات ودهاليز المدرسة وشخصية في الفسحة وفي ساحة الألعاب الرياضية. في الفصل كان من المرح والطيبة ما يجعل الطلبة يتطلعون ويتشوقون لحضورة إلي الفصل في حصته وكم كان يكون الفصل حزيناً عندما كان يتغيب في ذلك اليوم إلا في الفسحة وفي ساحة الألعاب الرياضية. في الفصل هو أستاذ ومعلم بارع يطير بالفصل بأكمله في عالم من الخيال والمتعة في طريقة شرحة ودعابته التي لا تنقطع حتي نهاية الحصة، في دهاليز وممرات المدرسة يحضك علي اللحاق بحصتك ويقدحك بنتكة عن حال المتخلفين عن الصف. أما في الفسحة فكأن شخصاً آخر قد حل مكانه من الصرامة والشدة والحزم إذا قام بالمرور مجرد المرور أمام المقصف أو كما هو معروف اليوم بإسم كافيه المدرسة تجد طابور الطلبة قد إنتظم في لمح البصر ولم يكونوا قبل ثواني قليلة من مروره يتسلقون بعضهم البعض ليصلوا إلي النافذة. وإذا مر الأستاذ عبدالله بمجموعة من الطلبة في الفسحة فإحذر أن تخرج منك عبارة غير لائقة أو أن تاّتي بتصرف غير لائق أمامه. وإذا مر الأستاذ عبدالله في ساحة الألعاب الرياضية حيث كانت تقوم بعض المباريات القصيرة في الفسحة بين بعض الفصول كان صاحب كل مهارة رياضية يقوم بإبراز أحسن ما عنده ويتفاني في إبداء مهاراته وإلا لكان نصيبهم من لسان الأستاذ عبدالله ما هو كفيل بإعادتهم إلي صفوف المبتدئين في تلك الرياضة التي يمارسونها.
كان طول الأستاذ عبدالله تسعون سنتيمتراً بالظبط. قزم، وهو فخور بهذا الأمر وكانت عبارته الشهيرة هي .. لا تكن أقصر من قزم. كان منا من قضي كل مراحل الدراسة ولم يفهم معني تلك العبارة وكان منا من أستمجع الشجاعة الكافية وقام بسؤال الأستاذ عبدالله عن معني تلك العبارة. والحق أقول أنني كنت من قضي كل مراحل الدراسة ولم أقوي علي سؤال الأستاذ عبدالله عن معني تلك العبارة وذلك حتي شاءت الصدف وتقابلت وإياه في مطار الرياض وكنت متجهاً إلي الولايات المتحدة الأمريكية وكان هو في طريقه إلي المدينة المنورة. الصغير يتغير شكله عندما يكبر أما الكبير فيبقي شكله في الغالب علي ما هو عليه فعرفته ولم يعرفني فلقد كان أستاذي في المدرسة الإعدادية وعندما قابلته في مطار الرياض كنت لتوي خريجاً من الثانوية العامة في طريقي إلي بلاد العم سام فقمت بتعريف نفسي وكانت سعادته غامرة برؤية أحد تلاميذه. إغتنمت الفرصة وقمت بطرح السؤال الذي لطالما حيرني وحير الكثيرين من زملائي وسألته ماذا كنت تعني يا أستاذ عبدالله عندما كنت تقول لنا لا تكن أقصر من قزم.
ٱجابني مستغرباً وقال كنت أحسب أن من لم يسألني عن معني تلك العبارة قد فهم معناها. فأجبته أن هيبته ومكانته بين المدرسين والطلبة منعت الكثيرين عن سؤالك.
قال ليس هناك أصعب علي الإنسان من أن يكون في مثل قامتي فـ بلإضافة إلي صعوبة الحركة وصعوبة التعامل مع الناس لإختلاف آراءهم وأحاسيسهم تجاه من هم علي شاكلتي وإزدراءهم أحياناً لقامتي وأحياناً أخري لتعاطفهم معي إلي درجة أن بعضهم يحاول مساعدتي في أشياء يظنون أن قامتي تحد من قدراتي أن أحصل عليها أضف إلي ذلك نظرة المجتمع عموماً لمن هم في حالتي الجسمانية هذه، لذلك كنت تجدني عندما كنت أكون في الفصل مع طلبتي أكون معهم علي طبيعتي وعلي سجيتي التي خلقني الله عليها أما عندما أكون في الأماكن العامة أو المكتضة تجدني أشحذ قدراتي علي مواجهة بعض النقص الذي يعاني منه المجتمع نحوي فتجدني حازماً صارماً معلناً صراحة معرفتي بكل ما يدور ولا يحسبن كل الذين من حولي أنهم قادرين علي إستغلال حالتي وقصر قامتي وأن يكون هناك قصور في آدائهم نحوي أو أمامي بالشكل الذي يختلف عن ما لوكنت مكتمل القامة كبقية الناس وهنا درس ورسالة وهي أن لمجرد أن خلقني الله بالصورة التي أنا عليها فإن هذا لا يعني أن أسمح للناس وللمجتمع أن يقوم بتقزيمي أبعد من قامتي وأن هامتي ليست بعدد السنتيمترات التي هي عليه قامتي الجسدية وهذا للاسف ما يمارسه كل سليم القامة علي أنفسهم وذلك بأن سمحوا للناس وللمجتمع أن يكونوا في داخلهم أقصر من قزم.
كم من هم في هذه الحياة في تصرفاتهم أقل من الصفر? وكم من هم في هذه الحياة سمحوا أن يكونوا طوال حياتهم أقصر من قزم?
أحب أن أقدم شديد إعتذاري لكل ذوي حالة النمو المحدود والتي يطلق المجتمع عليهم خطاءً مسمي قزم أو أقزام لأن هؤلاء الأفراد في مجتمعاتنا رغم قصر قامتهم إلا أنهم يطاولوننا بقدراتهم بل ويتفوقون علينا في كثير من المجالات۔
لوس أنجليس
0 comments:
إرسال تعليق