سرور.. لطلال فيصل..رواية أم تعرية؟/ د. حنان فاروق

شيء ما يستقر في القلب..فى الروح بعد انتهاء تلك الرواية التي لا أحب أن أصفها بأية صفة من تلك التي نصف بها أي كتاب حقق لنا شيئًا من المتعة..فالأمر أكبر من ذلك بكثير..الأمر يشبه أن تجد نفسك عضوًا في كتيبة أبي العلاء الخرساء تلك الكتيبة التي أريد لها أن ترى وأن تصمت ..لكنه صمت ليس كالصمت..هو صمت يضج بالكلام..يضج بالحكمة..يضج بالأسى..ويضج بالحقيقة التي تشبه الوهم والوهم الذي يشبه الحقيقة..

عندما تبدأ قراءة الرواية ومهما كنت عادلًا ومحايدًا وتنوي أن تتعامل بمنتهى التجرد مع النص احترامًا لرغبة كاتبه في  أن يجعله عملا أدبيًا خاصًا جدًا لا قنبلة فضائحية  على غرار كتب الفضائح الأشهر في مصر (كتاب اعتماد خورشيد كمثال) ..تجد أن الدافع الأول الذي يقودك وأنت تفتح أول صفحة في الرواية هو الفضول..فنجيب سرور تلك الشخصية المعقدة البسيطة المحيرة أريد له بشكل ما أن يظل اسمه مرتبطًا بعمل واحد فقط هو لا يتذكره الناس إلا من خلاله هو (أميات سرور)..أما الذين يعرفون تاريخه العظيم كفنان شاعر ومؤلف ومخرج مسرحي وممثل وناقد فهم قلة قليلة أخذتها الأيام وشغلتها عنه ..عما حدث له..وعن إحياء فترة فنية من عمر مصر لا من عمر نجيب فقط من الثراء والعظمة بمكان برغم كل مساوئها وتخلخلها..وأيضًا سقوطها..تلك الفترة التي كان للفن عمومًا و للمسرح خاصة فيها وجود..ثقل...وزن.. مفاتيح تفتح الأبواب المغلقة لفهم الأحداث ..لفهم مايجرى في المجتمع وحوله على كافة الأصعدة..أنت تدخل للكتاب لتعرف من هذا الفنان؟؟؟وما الذي حدث؟...هل كان مجنونًا بالفعل كما يقول كل معظم معاصريه رغم اعترافهم بألمعيته أم كان عاقلًا في زمن الجنون..صادقًا في زمن العهر..؟وهل ما أشيع عنه وعن حياته الخاصة كان حقيقيًا أم أن ضلالاته هي التي أوحت له بكل ماحدث فأذى الجميع بلا استثناء حتى نفسه؟

تساؤلات..تساؤلات ..تساؤلات..غير أن طلال فيصل الذي أصابت عدوى نجيب فتوحد معه في الحكاية وصارت حياته الخاصة والعامة مترعة بروح نجيب سرور وكأنه تلبسه..وكأنه فجأة رأى..إنك لا تنسى أبدا تلك اللحظة التي كان يجلس فيها طلال في صالة بيته وحوله أوراق نجيب وهو يبحث عنه بينها ويكاد يدركه وتستيقظ امرأته التي صارت مطلقته فيما بعد فيراها أخرى..أو...يرى حقيقتها التي لم يكن رآها قبلا..لماذا وقتها بالذات؟؟؟ هل تأثره بشخصية مشروعه الأدبي هو الذي فعل..أم أن تنفس الصدق فيما قرأ عن نجيب هو الذي أجلى بصره؟

تعدد الأصوات في الرواية..واقترابك من المحيطين بنجيب بدرجات متفاوتة يجعلك تبتسم..فحين يتكلم الجميع على حدث مضطرب بعينه تشير فيه أصابع الاتهام للبعض تجد كل واحد لديه تبريره المقنع جدا من وجهة نظره والذي يمكن أن يجعلك تتعاطف معه وتتفهمه إن كنت من هؤلاء الناس الذين يسكنهم الفهم و التفهم للنفس البشرية وقدرات الناس المتفاوتة على التعاطي مع الأشياء وعلى البذل وعكسه..إن تعدد الأصوات هذا يجعلك طيلة الوقت فى حالة شبه متعادلة..ترى من جميع الجوانب دون أن تصدر حمًا بالشنق على أحد..غير أنه لسبب ما اقترب طلال جدا من البعض واقترب على حذر أوبحدود من البعض الآخر..ربما لأن بعض الشخصيات لم تمكنه م الغور فيها للنهاية غير أنه اتخذ احتياطاته الكاملة فجعل بعض هؤلاء ماكرًا كتومًا حتى مع نفسه وجعل البعض الآخر مصابًا بأمراض الشيخوخة كالنسيان..الإجباري أو الاختياري..ففي شيخوختنا قد نصاب بضعف الذاكرة فتسقط منا  عن غير قصد أحداث وحكايات وشخصيات أثرت فينا وأثرنا فيها.. لكننا أيضًا قد نتناسى عمدًا..فننسى لأن الذكرى تؤلم..والشيخوخة لا تتحمل مزيدًا من الألم..

رغم كل الفضول الذي أجبرت على الدخول به إلى الرواية لسبر شخصية نجيب سرور لكن الذي أوجعني بحق هو الفساد القديم الجديد..مؤلم جدًا أن تقرأ نصًا أو كلامًا لأناس مهمومين بأوطانهم عاشوا على نفس الأرض واستنشقوا نفس الهواء منذ مايقرب من خمسين سنة فتجد أنه الأنسب جدا لما تعيش أنت الآن في هذه اللحظة..وكأن تلك العقود والأعوام لم تمر..وكأن الناس هم الناس..وكأن زبانية العذاب في الأرض لايموتون ولا يتطورون حتى..نفس العبارات..نفس طرق التعاطي الغبي مع الحرية والرقي ووجهات النظر..نفس الاستغلال..نفس الانتهازية..نفس مانعيش..نفس مانعيش بالنص..حتى أنني حين هتف نجيب فجأة: ثورة؟هل هذه ثورة؟..قلتها معه..

أخذني النص المسرحي (الزوج والكلاب) الذي سلمته شخصية الدكتور كمال الفوال فى الرواية للكاتب طلال فيصل..النص الذي حكى فيه حكايته بمنتهى الصدق وبمنتهى الإبداع..ربما النص كثيرًا مباشر لكنه أيضاً لم يقتصر على الحكاية فقط بل أبدع في الدخول إلى نفسية الرجل الريفي الذي تبتلعه المدينة بكل جنونها فيضيع فيها وتظل ريفيته تشده إلى هناك..إلى حيث رائحة الأرض وبراءتها..ووفائها..هو لا يتكلم فقط عن خيانة محدودة بل هو يعطيك انطباع –بالرغم من أنه يحكي حكايته بحذافيرها- بخلط الخاص بالعام..بتأثير المجتمع بكل ضغوطه والضعف الإنساني بكل جبروته على بيت صغير تمنى هو أن يكون..رغم أنه لم يكن منذ البداية..

لم يغفل طلال فيصل فى الجزء الخاص بالأطباء الثلاثة عبد المحسن سليم وكمال الفوال بنرجسيتهما كل على طريقته..ثم جلال الساعي بآدميته ورقته وثقافته.. الدخول إلى عالم الطب في مصر..بمشاكله..بسوء خدماته..بتحكم فئة التمرجية أحيانًا وفساد بعضهم..بمعاناة أطبائه..خاصة الطبيب حديث التخرج الذي يلقى به فى أتون المستشفي دون أن يجد من يسانده أو يعلمه بشكل جدي قبل أن يتحمل هو مسؤولية مرضى وحيوات وموت..يفضح حقيقة أن المستشفيات خاصة النفسية ليست فقط أماكن علاج واستشفاء بل هي تستخدم لأغراض سياسية وأمنية وفي تكميم الأفواه وللضغط أحيانًا على أصحاب الكلمة والرأي..لست أقصد هنا شخصية نجيب بالذات فقناعتي الشخصية من خلال ما قرأت كطبيبة تسير بي نحو أن شخصية نجيب سرور فى تلك الرواية كانت مريضة بالفعل لكن علاجها الأوّلي كان الأسوأ ..فلا التشخيص كان سليما ولا جلسات الكهرباء كانت ذات نفع حقيقي بل على العكس كانت تسير به نحو الهاوية..لن أناقش أنه كان مريض كبد وأن مريض الكبد يصاب بتغيرات سلوكية حادة أحيانًا وأنه لو كان ذلك كذلك فمكانه لم يكن أبدا مستشفى الأمراض العقلية..بل أقسام الكبد بالأمراض الباطنية.. فهذا موضح بالرواية..لكني سأقف أمام ومع شخصية الدكتور إمام الأستاذ بكلية العلوم الملقى هناك بلا أمل..وجملة سرور –كما تخبرنا الرواية-عن عنبر 4 وهو عنبر الخطرين بالمستشفى والذي كان يضم طلبة جامعة ومثقفين إضافة إلى الدكتور إمام..ونجيب سرور..وأتأمل..فهذا بشكل أو بآخر يحدث..الأمس واليوم..ومن يدري ربما غدًا..

آتي إلى الجز الخاص بالدكتور جلال الساعي..وهو الجزء الذي أحسست أنا أنه هو الجزء الخيالي في القصة..ليس خيالا بالمعنى المفهوم..لكن جلال الساعي هو طلال فيصل نفسه ..حين تماهى مع الحكاية وحقق لنفسه أمنية أن يعيش بجانب شيخه..نجيب سرور..في شخص جلال الساعي..الشخصية كانت رائعة..ومن خلالها ومن خلال الحوار الذي قام بينها وبين نجيب سرور حاول طلال فيصل فهم سرور..وإيصال رسالته للناس..اجتهد في شرح مفهومه عن فكر المؤامرة..عن الخيانة..عن الفن..وعن الحب..ربما بالغ قليلا حين دبر هروب نجيب مع جلال الساعي إلى بيت زين العشماوي ليجد نفسه فجأة وسط تلك المستحيلات التي ترى من بعيد ومكتوب أمام أعين جماهيرها دائمًا : ممنوع الاقتراب مع إمكانية التصوير..لكنه هنا كان متعاطفا مع جلال أكثر من تعاطفه مع نجيب وأراد أن يحرره من أغلاله ولو لليلة واحدة..يرى فيها مالم ير من قبل..ويعرف أنه لم يخسر كثيرا حين حبسته دراسته عن صحبة من رآهم دوما نجومًا وشموسًا لا تمس ..فتنطلق روحه من سجن إحساس الحرمان المختبيء..من هنا كان يعالج من؟

لا تظلموا الرواية وتحبسوها في شخص نجيب سرور..فالرواية تعري مجتمعًا كاملًا وتكشف حقيقته...وتضع أمام أعيننا مصيبة أن شيئًا لم يتغير أبدًا منذ أكثر من خمسين سنة..ويبدو أنه لن يتغير..على الأقل الآن..

CONVERSATION

0 comments: