نيلسون مانديلا نجم في سماء الحرية/ مهندس عزمي إبراهيم

يحتضن التاريخ في سجلاته كثيرين من العمالقة يصعب حَصرهم عبر القرون. هؤلاء الذين سجلوا آثاراً إنسانية بعيدة عميقة في قلب البشرية وفي مسارها للتقدم والسماحة. حيث ساهموا في ارتقاء البشرية في مجالات العلم والطب والتعمير والسياسة والاجتماع والفن والأدب وغيرها. يطفو على سطح التقدير نخبٌ من نجوم وضعوا "الحرية للآخرين" على قائمة رُؤاهم وأحلامهم وأهدافهم وكفاحهم وانجازاتهم، فكانوا عمالقة على قائمة العمالقة. 
من بين هؤلاء نيلسون مانديلا، نجم جنوب أفريقيا، بل نجم أفرقيا، بل نجم العالم أجمع.
رحل مانديلا هذا الأسبوع عن عالمنا إلى رحاب خالقه. رحل بالجسد، وليس بأعماله وآثاره واسمه وذكراه. فقد غيَّر مانديلا وجه "جنوب أفريقيا" وألهم العالم أجمع معنى بناء حرية الوطن بحرية الفرد، ومعنى ضمان وحدة الوطن بمساواة مواطنيه بلا تمييز. ترتفع صور مانديلا ملء العالم في حياته وبعد مماته، وأهم ما يميز فيها ابتسامة الرجل البشيرة، وما يلاحظ عنه التواضع. فقد سُئلَ مانديلا يوما عن الطريقة التي يتمنى أن يتذكره بها "الجنوب أفريقيون" فأجاب: "أترك ذلك للجنوب أفريقيين، ما أريده هو حجر بسيط مكتوب عليه مانديلا".
نال مانديلا في حياته محبة وتقدير نجوم وعلماء ومفكري ورؤساء وشعوب العالم أجمع، من كل دين ومن كل لون وجنس. ملايين حزنوا عليه وأسفوا لرحيله. وقد تلقت السلطات في جنوب أفريقيا التعازي من مشاهير وقادة العالم كله. ونكست دول العالم أعلامها حدادا على فراقه في كثير من الدول، وزيّنت صورة ضخمة له واجهة "الكي دورسيه" في باريس. ووضع أشخاص زهوراً على قاعدة تمثال له في لندن. وركض أولاد في جنوب افريقيا حاملين صورته، ووقفت بورصة وول ستريت دقيقة صمت قبل أن تقرع جرس الافتتاح. كما افتتح زعماء أفارقة قمة يعقدونها في باريس بدقيقة صمت.
ومن الأقوال الجميلة والحقة قول الأسقف ديزموند توتو أحد أهم المناضلين ضد نظام التمييز العنصري، إن مانديلا "علمنا كيف نعيش معاً ونؤمن بأنفسنا وبجميع الآخرين"، وقول باراك أوباما رئيس الولايات المتحدةفي كلمتة في "مهرجان" عزاء مانديلا: "لقد أنجز مانديلا ما يعجز عنه أي رجل". وقد أوضح البيت الأبيض أن ثلاثة رؤساء أمريكيين سابقين سيشاركون في القداس وهم جورج دبليو بوش وبيل كلينتون وجيمي كارتر.
يعجز حجم المقال أن يحتوي كل ما قاله رؤساء وعظماء دول العالم عن مانديلا. فأكتفي بالإشارة إلى ما جاء بخبر واحد في هذا المجال ببلاد الشرق.
جاء في الأخبار من (CNN): "أعلنت عدة دول عربية حالة الحداد العام، وقررت تنكيس أعلامها، حزناً على رحيل الزعيم الجنوب أفريقي، نيلسون مانديلا، الذي وافته المنية مساء الخميس، عن عمر يناهز 95 عاماً. وفي مصر، أصدر الرئيس "المؤقت"، عدلي منصور، قراراً جمهورياً بإعلان حالة الحداد العام لمدة ثلاثة أيام، اعتبارا من الجمعة 6 ديسمبر الجاري، وحتى غروب شمس يوم الأحد حيث نيلسون مانديلا يودع العالم ليرقد بسلام. وفي الجزائر، قرر الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، تنكيس العلم الوطني لمدة ثمانية أيام، ابتداءً من يوم الجمعة، "تخليداً لذكرى وروح هذه الشخصية الأفريقية المرموقة، والصديق الوفي للجزائر"، بحسب ما جاء في بيان رئاسي. كما أعلن الرئيس التونسي "المؤقت"، محمد المنصف المرزوقي، إعلان الحداد الوطني يوم السبت، وتنكيس الأعلام بالمؤسسات الرسمية، إثر وفاة "الزعيم التاريخي المناضل" ضد التمييز العنصري، والرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا. وفي نواكشوط، أعلنت الرئاسة الموريتانية حالة الحداد رسمياً لمدة ثلاثة أيام، على "عموم التراب الوطني"، لوفاة "رئيس جمهورية جنوب أفريقيا الأسبق، والمناضل الأفريقي الكبير نيلسون مانديلا." كما أمر رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بتنكيس الأعلام، وأعلن الحداد ليوم واحد، على وفاة الزعيم والمناضل الأفريقي، نيلسون مانديلا.
انتهى الخبر.
وهذا ليس بغريب على ما تعودنا في بلادنا بالشرق وهو أن نحترم "الموت". أذكر منذ طفولتي خروج المصريون مسلمين ومسيحيين على أبواب منازلهم ومحال أعمالهم عندما تمر جنازة بالشارع، تاركين ما بأيديهم واقفين يترحمون على الميت. لا تفرق اذا كان الميت مسلماً أم مسيحياً. أذكر في احدى زياراتي لمصر منذ اواخر التسعينات أن توفي ابن خالي بأحدى القرى الكبيرة بالوجه البحري، فذهبت ومعي زوجتي لمشاركة الأسرة في توديع فقيدها. وإذ بأفواج المسلمين يحضرون للعزاء بمنزل المتوفي والاشتراك في مسيرة الجنازة حتى المدفن. بل وأذكر العديد من العائلات المسلمة الصديقة بالقرية تحضر صواني كبيرة محملة بالطعام المطبوخ إلى بيت المتوفي لإطعام الضيوف سواء المحليين أو القادمين من سفر. وأذكر أيضاً قيام بعض الأسر المسلمة باستضافة لبعض الضيوف الرجال القادمين من سفر للمبيت بمنازلهم، تاركين منزل المتوفي لمبيت السيدات فقط. لم يكن هناك متأسلم متطرف حقود غبي يفتي بعدم مشاركة غير المسلمين التهنئة أو التعزية.
مررنا بهذه العادات الطيبة في طفولتنا وشبابنا حتى ذاك الزمن القريب، إلى أن غزت "الوهابية" أرض الكنانة وأفتى دعاتهم أن تهنئة المسيحي في فرحته حرام وأن تعزيته في حزنه حرام، فأطاحوا بسماحة الإسلام عرض الحائط!!!
فاليوم في خضم هذا المهرجان العالمي لتوديع عملاق من عمالقة الحرية وبطل من أبطال الإنسانية، نيلسون مانديلا، يخرج علينا إفتاء غير إنساني من قلب السعودية معقل الإسلام، ومنبع الوهابية الباغضة لكل شيء طيِّب بالخبر الآتي:
"الرياض، المملكة العربية السعودية (CNN): أصدر الداعية السعودي البارز، عبدالرحمن البراك، بيانا قاسيا هاجم فيه الذين يتمنون الرحمة للزعيم الجنوب أفريقي الراحل، نيلسون مانديلا، متسائلا عن سبب "تمجيد هذا الكافر الهالك" معتبرا أن المترحم عليه "وقع في "ناقض من نواقض الإسلام" ويصبح "مرتدا" بحال إصراره على ذلك.
وقال البراك، الذي يتمتع بمكانة دينية ومعنوية رفيعة في السعودية: "هلك في هذه الأيام (مانديلا) الكافر، وقد قيل إنه ملحد أو نصراني، كما هو مشهور في الإعلام، وقد بادرت صحف محليةٌ وغير محلية وقنوات عربية إلى تمجيده والبكاء عليه، وليس للرجل ما يحمد عليه إلا ما يذكر عنه من تصديه لمقاومة العنصرية في بلاده... مع أنه لم يتفرد بالجهد في هذا السبيل."
وأضاف البراك أن الدين "لا يمنع ذكر الكافر بما فيه من خصال حميدة" ولكنه استطرد بالقول إن ذلك "لا يسوغ التبجيل والتمجيد والإطراء المشعر بالاحترام والولاء، مع تجاهل أسوأ السيئات، وهو الكفر،" مضيفا أن مانديلا قد "دعي إلى الإسلام فأصر على كفره،" كما ذكر بأن الرئيس الراحل "نشر الفساد في البلاد من الزنا والفجور وشرب الخمور."
واعتبر البراك أن إشادة الإعلام العربي بمانديلا تعود إلى "رضى أمريكا وهيئة الأمم عنه لأنه عندهم نصراني،" وتوجه إلى "المترحمين" على مانديلا بالقول: "هذا المترحم على الكافر إن كان يعتقد أنه على دين صحيح فقد وقع في ناقض من نواقض الإسلام، فإن عُرِّف وأصرَّ كان مرتدا، وإن كان لا يعتقد صحة دين هذا النصراني فترحمه عليه جهل وضلال، وقد ارتكب محرماً في دين الإسلام بإجماع العلماء."
انتهى الخبر.
ويؤسفني، أيضاً، أن أدرج أني قرأت بالأمس تعليقاً لشخص مسلم بإحدى صفحات التواصل الاجتماعي على خبر وفاة نيلسون مانديلا نصَّه: "لو كان مسلماً كنت ترَحَّمت عليه".
هذه الملحوظة وتلك الفتوى التي سبق سردها من السعودية العربية، ما كنت أود أن أدرجهما في مقالي، لولا أن كل منهما خنجر مسموم في يد جاهل َصَوَّبه بحقد إلى قلب عملاق إنساني لم يوجد له مثيل ببلاد الشرق الإسلامي. لا تفسير لتلك الملحوظة وتلك الفتوى إلا أنهما نابعان من جذور سوداء عطنة عفنة في نفوس البعض من أخوتنا المسلمين نتاج ما يتعلمون وما يفتي به دعاة كارهون!!!
ربما نلوم الكارهين الجاهلين النافثين بغضائهم.. بل اللوم كل اللوم على الخيّرين العاقلين الصامتين!!!
***


CONVERSATION

0 comments: