مكي الربيعي.. سفير الشعر العراقي الذي أحترم وأجّل/ الأب يوسف جزراوي


أجد نفسي في أغراء شديد للكتابة عن شخصية ثقافية مرموقة، إنه ذلك العراقي الرائع والشاعر الرفيع الشأن، الذي تعود بدايته في نظم الشعر إلى عام 1966، إذ كتب في سنّ صغيرة قصيدة بالفصحى سقط اسمها من ذاكرته على مدار رحلة العمر، ولما عرضها على احد الأقرباء قال له يومها: "من أيّ كتاب قد نقلتها يا مكي؟!" دون أن يعلم أنَّ مكي سيغدو من شعراء الصف الأول في العراق. إنها عجلة الحياة وحكمة الزمن .
ترك العراق عام 1997 ، في وقت كان فيه أحد الأعلام المعروفين، سواء على الصعيد الشعري أو الصحافي، حيث كان من الشخصيات العامة المرموقة، والتي تحظى باحترام كلّ من عرفها.
سافر إلى عمان صحبة عائلته الكريمة ومن هناك هاجر إلى أستراليا ووصل إليها عام 2000.
كنتُ أسمع اسمه في التلفاز العراقي، واستمع لتلك الأغاني التي كتب كلماتها لكبار المطربين العراقيين في اواخر ثمانينيات القرن الماضي يوم كنت صغيرًا، وقد كنا عرفنا بعضنا فيما بعد على صفحات الـ facebook.com، إلى أنْ سنحت لي فرص الحياة أن ألتقي تلك القامة الأدبية العراقية وجهًا لوجه في بلاد الغربة وتحديدًا في سيدني؛ حيث ألتقيته للمرة الأولى في أمسية مؤسسة العراقية يوم جرى تكريمنا من قبل المؤسسة المذكورة بتاريخ 8/3/2012، وأتذكر يومها كيف تبادلنا التحية والعناق بلهفة وتحدثنا عن بعض هموم الشأن العراقي في بلدنا المنكوب. وهو الحديث الذي يدور عادة بين العراقيين كلما التقوا، وهل لهم شغل أو شاغل سوى العراق؟ وعلى مرّ الأعوام ربطتني بصديقي العزيز صلة إنسانية وثقافية تسودها المودة والتقدير والإحترام المتبادل .
لقد عرفته انسانًا يحمل الوطن قضية بين جوانحه؛ حيث كانت مواقفه واضحة في جميع المحن التي تعرض لها الوطن، وحتى تلك التي تطاحن فيها العراق في حرب طويلة مع ايران .
 قد لا يختلف إثنان بأنَّ الرجل حفر اسمه في تاريخ الشعر العراقي والعربي الحديث ، فقد سار الربيعي على درب الكبار من الجواهري إلى أودنيس والاب يوسف سعيد ، وصولاً إلى سركون بولص ، وصلاح فائق وأسماء أخرى مهمة في سماء الشعرية العربية .
لقد جسدَ ذلك المثقف الرفيع محنة شعبه في الحرب الإيرانية والغزو الامريكي والهيمنة الايرانية على مفاصل القرار في العراق بعد 2003 ، سيّما وهو عايش الحرب، الإنتصارات والخسائر ومحنة الحصار الاقتصادي ومرّ بكلّ الظروف القاسية والآلام التي لا يعرفها سوى العراقيين. انها أحزان وطن وأخطاء ساسة وقادة ومحنة شعب، لا يعرفها ألا من عاصرها وأدركها عن قرب وأختبار. انّه بحق إنسان يجمع بين شعبية الشاعر وكبرياء المثقف وشموخ الوطني الذي يعيش قضايا وطنه ويعكس معاناة شعبه. ولقد ربطني به إعجابٌ شديد من جانبي كمثقف عراقي يتعاطى الثقافة منذ صغره ويجسدها بشخصيته الإنسانية الجادة ، ويقتحم جوهر المعرفة الإنسانية ويبحر في كلّ روافدها، ولم يكن في تاريخه إلا تلك الغصة بسبب عمله في دائرة الإذاعة والتلفزيون العراقي، وقد حدثني الرجل ذات يوم : إنّه لو عاد الزمان به إلى الوراء لما عمل في تلك الدائرة التلفزيونية كي لا يكون تحت سلطة أحد.
مكي الربيعي أسمٌ لم يرتبط إلا بعراقهِ وشعرهِ ومسرحياته وأدبه والقضايا الإنسانية، وهو ليس ذلك الشاعر الذي يجلس في لقاءات اجتماعية ليوزع النكات والقفشات حتّى يضحك الحاضرين، فليست تلك هي رسالته أبدًا، وأراه دائمًا يحترم نفسه بشكلٍ ملحوظ ويضع مسافات الإحترام بينه وبين الآخرين، ولا يتخيل أحد أبدًا أنَّ ذلك المثقف الذي اجده أحيانًا يشتبك فكريًا ووطنيًا في مناقشات جانبية بعمق واقتدار على صفحته في الـ facebook.com، هو ذاته دائمًا بحضوره الإنساني الطاغي وشخصيته المتميزة بالتواضع وقدرته على اختراق القلوب والعقول في وقت واحد، ولا يزال بريق الأمل يلمع من عينيه رغم حزنه على بلده العراق المنكوب القابع وسط الأمواج العالية، تعصف به الرياح العاتية والأنواء والأعاصير ووتهدده المؤامرات المتتالية. كما إني تلمست بذلك العراقي الغيور الموضوعية التي يعدها ميزان حياتيه، ولم أسمعه يومًا ينتقص من موهبة أحد أو من قيمة الآخرين، وإنمّا عرفت الرجل منصفًا للغير محبًا ومساعدًا للآخرين ، ولا يحبذ الظهور كثيرًا مبتعدًا عن الأضواء رغم قيمته الكبيرة التي يعرفها الجميع ويسعى نحوها الكثيرين، وتلك صفة تنتاب المبدعين الفاضلين على مدار سنوات العمر وسمة المثقفين رفيعي القدر، ويمتلك الربيعي أيضًا قوة مذهلة في الشخصية ومقدار كبير من الطيبة العراقية، وله من الكياسة والحنكة والموهبة ممّا سمح له بأن يصبح مثقفًا متألقًا وشخصية عربية عامة مرموقة قبل أن يكون شاعرًا رفيع المستوى، والرجل أيضًا شديد الحساسية ربّما لشاعريته، نقده لاذع في حين وساخر في حين آخر، يمتلك صورًا شعرية تميزه عن الاخرين، ولقد تمكن من رسم خارطة حياته بين الدمعة والإبتسامة إن صح التعبير. و لا أزال أذكر للرجل موقفه النبيل في احداث الموصل التي تعرض لها العراقيون ولا سيّما ابناء وطنه من المسيحيين والأيزيديين، وقد عرفت عبرَ كتاباته بصفحته في الـ facebook كيف كان الربيعي يومها مُتأثرًا إلى حدٍ كبير بما حدث وحزينًا على الوضع الذي آل اليه البلد، مدركًا حجم المخاطر والمآساة التي تنتظر العراقيين باكملهم في ظروف مثل تلك التي تمر بها الموصل الحدباء. ولحسن حظي فإنَّ علاقتي لا تزال وثيقة وقوية ومتواصلة مع صديقي المعروف بدماثة الخلق ونقاء القلب وحسن النية، وقد عرفت الرجل رحب الصدر شديد الصدق كثير التواضع، عفيف النفس، معتزًا بقيمته، مفرطًا في الموضوعية ويتحدث بلا عقد وببساطة شديدة منفتحًا على الكثيرين ومحترمًا لهم. ولقد شرح لي ذات يوم في توازن وعدالة أسباب إبتعاده عن المشهد الثقافي المعاصر في العراق، فالقيم الأدبية بدأت تفقد خاصيتها وجودتها وسط ازدواج المعايير، بحيث لا توجد " مسطرة" نقدية واضحة تدلنا وتحدد لنا من هو الكاتب و الشاعر والأديب الحقيقي .
 فالكتابة لم تعد موهبة ورسالة ، بل اصبحت شيئًا كماليًا يمارسها كلّ من هبَّ ودبَّ .
لهذه الأسباب ولغيرها تراوده بين الحين والآخر فكرة أعتزال الشعر والكتابة لعدم وجود ضوابط. وقد تلمست فيه ذلك الهاجس الذي يؤرقه يوم اخبرني: " يا أبانا ما ذا تراني اقدم اليوم غير أنني أكتب لنفسي ولقرّائي هنا وهناك على خلاف ما فعلت في الماضي، فالشاعر الذي يرى نفسه خارج إطار بلده ورسالته وعمله يشعر بالخسارة والفقدان".
يعيش اليوم الشاعر مكي الربيعي ، في استراليا، تلك القارة التي تقع في كعب الدنيا، لكن هذا لم يمنعه من التواصل مع العراق الذي جُبل من تربته، والذي بذل فيه قصارى جهده ليكون عراقًا حُرًا ديمقراطيًا، ينعم بالأمن السلام. ولكن على ما يبدو أن مدينة السلام ستظلّ على مرّ الأزمنة تفتقد للسلام، وهذا ما جسده الشاعر في كتاباته الشعرية المفعمة باللوعة والحزن على بلدٍ تتكالب عليه المصائب والمحن باستمرار ، وقد تجسد ذلك في قولهِ :
" إني أتاسى عليكَ ياوطني ،
من موتٍ إلى موت مشيت ، ومن كفنٍ الى كفنِ ".
وربّما لا يعلم البعض بأنَّ شاعرنا العراقي كتبَ عدد كبير من البرامج الاذاعية والمسلسلات والافلام القصيرة . وعمل في الصحف العراقيّة :الجمهورية، العراق، بابل، نوروز، الرافدين، بصفة محرر ومشرف ومدير. كما وشغل منصب الأمين العام لرابطة كتاب الاغنية العراقية للسنوات 1989_1996 . وعضوًا في لجنة التحكيم لاختيار أفضل عمل مسرحي وموسيقي لمجمل مدارس العراق، ورئيسًا اللجنة التحكيمية لكتابة الأغنية الشبابية عام 1988 في العراق. ومساعدًا للمدير الاداري لنقابة الصحفيين العراقيين 1991_1992. وعام 1995 أنيطت به رئاسة لجنة فحص الأغاني في اتحاد كتّاب الأغنية، وفي عام 1997 اصبح أمينًا عامًا لمؤسسة شعراء العراق ، كما صدرت له عام 1997 (مدن الفراغ ) وهي مجموعة شعرية . و(الدوشق) / قصص قصيرة عام 1998 ثم تلتها: غزالة لحديقة البيت، وهي مجموعة شعرية ، عام 2012، وكان أخر اصداراته عام 2013 (مرثية دم على قميص قتيل) ، وهو نص شعري طويل ، يتحدث عن الغزو الامريكي للعراق ، ونشرَ العديد من المقالات والقصائد والدراسات النقدية والمعرفية على صفحات الإنترنت وفي عدد كبير من الصحف والمجلات العراقية والعربية والاسترالية بالإضافة إلى مواقع اخرى عديدة. وقد حصل الرجل على عدة جوائز وشهادات تقديرية، لعلَّ ابرزها هو الفوز بجائزة اتحاد الصحافيين العرب عن أفضل عنوان صحفي عام 1979، وجائزة الدولة لأفضل نص غناتئي عام ، 1973وجائزة الإبداع لجوائز ناجي نعمان الأدبية عام 2012 ،وجائزة مؤسسة العراقية للثقافة والإعلام 2012.
وقد جمعتني بالشاعر مكي الربيعي على مدار سنوات تواجدي في سيدني عدة مناسبات أدبية، ولا تزال لصيقة بذاكرتي تلك الوقفة التي وجدته فيها يوم تكريمنا من قبل مؤسسة سواقي للثقافة والفنون بتاريخ 11/4/2014؛ حيث تبادلنا الهم العراقي في وقفةٍ سريعةٍ عند مدخل قاعة الحفل، إنَّ تلك الليلة من ليالي شتاء سيدني سوف تظلّ محفورة في ذاكرتي، لأنها وقفة لمراجعة الأحداث واجترار الذكريات مع شخصية عراقية كبيرة عرفت دهاليز الصحافة ودروب الوسط الأدبي، فاتسمت بالحكمة في التحليل والحياد في الرأي والموضوعية في المناقشة، وأذكر جيدًا تلك المسحة من الحزن التي رايتها على وجه الرجل ساعة نهض وشرع بالقاء كلمته التي دارت رحاها عن احوال العراق والعراقيين.. ثم غادر القاعة على عجل، وفي صباح اليوم التالي حدثته هاتفيًا مستفسرًا عن سبب خروجه، ثم عرجنا على مواضيعَ شتى، واتذكر حين قلت له : صديقي الربيعي ، لا تتأمل أن يعود العراق إلى مقدمة الصفوف، لأن ساساتنا لم يستثمروا الانتصار جيدًا ولن يتعلموا من الانكسار ومن الذي حصل أبدًا. فأجابني: صدقت يا أبانا.
ولا بُدَّ أن أعترف هنا أنَّ الأستاذ مكي الربيعي وغيره من المثقفين كانوا يعملون جميعًا لوجه اللّه وخير الوطن والإنسان، ولا زالوا وإن كانوا بعيدين عن العراق، فلسنا نحن من نحيا بالعراق، بل لنا وطن هو من يحيا فينا.
ويطيب لي أنْ أقول قبل الختام: إنّني عندما أكتب عن شخصيات جمعتني بهم نعمة الرب وظروف الحياة ورسالتي الثقافية، فأنني أكتب عن قرب، وأتحدث عن أولئك الذين تعاملت معهم شخصيًا وتحدثت إليهم مباشرة، وأنا هنا لستُ كاتبًا للسيرة الذاتية لأحد ولكنني أقتصر فقط على الذين أستطيع أن أنقل عنهم بعض محطات العمر بأمانة، وأنْ أسجل انطباعاتي وخبراتي الإنسانية والكهنوتية والادبية معهم في أطار من الموضوعية والحيادية فاعطيت لكلّ شخصية ما لها واخذت ما عليها. ولا نني لا أحب أن تتضمن مذكراتي الصادقة إساءة لأحد، خصوصًا إذا كان قريبًا إلى قلبي، عزيزًا على نفسي ، لهذا تجنبت التقرب قدر المستطاع من الحياة الخاصة للشخصيات التي تناولتها، وأودَ أن أوضح للقراء الكرام: إنّني لا أرمي من وراء هذه السلسلة من الشخصيات التي كتبت وأكتب عنها غايات خاصة أو أغراض ذاتية أو اهداف خفية أو مساعي للشهرة، فالجزراوي وبفضل نعمة الرب كاهن معروف وله من الإنتشار ما يكيفيه وكاتب مقروء ومتحدّث مسموع، فلا غاية لي من هذه الكتابات سوى الاعتزاز والوفاء لوجوه اسهمت في بناء حياتي بمجالات شتى.
ختامًا في سيدني راح يلوك أستاذنا القدير ذكريات العمر ويراجع أحداث الماضي ويردد لمحبوبته بغداد أناشيد الفرح وأهازيج الأمل، بعد أن تحجرت الدموع في المآقي، وهو يسعى إلى لحظة تلاقي بعاصمته وبلده وابناء شعبه بكلّ الوانهم وأطيافهم، ذلك الشعب الذي لم يتوقف أبدًا عن تقديم الأبطال والشعراء والمبدعين، لأن شمس العراق لن تغيب أبدًا.
تلك شهادة للتاريخ اقولها بإنصاف عن شاعر العراق الكبير وسفير الشعر العراقي الأستاذ مكي الريعي، الذي أكن له قدرًا كبيرًا من الإحترام والمحبة وأنسب له بعض الفضل في مسيرتي الأدبية المتواضعة، وبذلك أكون قد طويت صفحة ناصعة أعتز بها لأسم مرّ بي في مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب وصولاً إلى رحلة الثلاثين من العمر، وأقدر فيها ما تعلمته من قدرات الرجل في التفكير والكتابة وأساليبه الأدبية، وخرجت منها أحمل أجلالاً لذلك الشاعر المرموق الذي قذفت به أوضاع العراق واحزانه المتكررة منذ سنوات إلى عزلة اختيارية في بلاد الإغتراب، مُلتزمًا بما اقتنع به مدافعًا عنه في دماثة خلق ورقة، لا نكاد نرى لهما نظيرًا في زماننا الرديء هذا.
جازاك الله يا أبا عراق خير جزاء قدر ما قدمت لشعبك العريق ووطنك الجريح وللإنسانية من كتابات جليلة سوف تبقيك دائمًا في ضمير التاريخ المعاصر للعراق والعراقيين.
تحيةً إلى مكي الربيعي الصديق الذي أُحب ، والشاعر الذي أحترم، والأديب الذي أُجّل، والإنسان الذي يتحلى بأرقى الصفات وأجمل السجايا وأصدق النوايا .

CONVERSATION

0 comments: