تصادم المعتقدات الدينية واستحالة التسامح/ كميل العيد

يقول لوبان غوستاف في كتابه روح الثورات "" إن عدم التسامح يلازم المعتقدات القوية ""  وهذا صحيح فبالعودة للتاريخ نجد صعوبة التسامح بين أنصار المعتقدات المتقاربة  كالبروتستانت والكاثوليك في حين كانت المعتقدات المتباعدة كالإسلام والمسيحية أكثر تسامحاٌ. فإذا نظرنا إلى المعتقدات التي شطرت فرنسة زمنًا طويلا" رأيناها لا تختلف إلا في الأمور الثانوية ، فالكاثوليكي والبروتستانتي لهم اله واحد ولا يختلفان إلا في كيفية عبادته، ولو كان للعقل شأن في صوغ معتقدهما لأراهما أن لله لا يبالي بالصورة التي يعبد عليها.
ولما كان العقل غير مؤثر في دماغ المؤمنين استمر البروتستانت والكاثوليك على الاقتتال بقسوة، وعندما جمعت الملكة الفرنسية كاترينا دومديسيس علماء اللاهوت من البروتستانت والكاثوليك للحوار خاض الطرفان غمار المناقشة والقدح والذم من غير أن يحيد واحد منهم عن عقيدته, فاكتشفت الملكة بعد طول عناء وبنتيجة التجربة بأن التسامح وان أمكن بين الأفراد فهو غير ممكن بين الجماعات.
كان البروتستانت يسيطرون في جنوب فرنسة حيث اضطهدوا هناك الكاثوليك لكي يترك هؤلاء عقيدتهم، وكانوا يذبحونهم وينهبون كنائسهم عندما يحبط عملهم. أما الكاثوليك فلم يكونوا أقل ورعاٌ من البروتستانت في الأماكن التي كانت الأكثرية فيها لهم. وقد نشأ عن مثل هذه الأحقاد حروب دينية ضرَّجت فرنسة بالدم زمنًا طويلا". فأخذت تلك الحوادث تفكك عرى فرنسة، حتى أصبحت في أواخر عهد هنري الثالث جمهوريات صغيرة مستقلة متشاكسة ، وقد تضاءلت سلطة الملوك ووقعت المذابح وكانت أسوأها وقعا" هي مذبحة سان بارتلمي سنة ١٥٧٢ . ولم تكن هذه المذبحة جرمًا اقترفه الملك ، بل جرمًا شعبيٍّا ارتكبته الأصولية الكاثوليكية بحق أبناء دينها من البروتستانت ، حيث بدأت المجزرة عندما قتلت الملكة كاترين دوميديسيس في باريس خمسة من زعماء البروتستانت الذين ظنت أنهم يتآمرون عليها وعلى الملك , وشاع ذلك في باريس فانقض أشراف الكاثوليك والحرس الملكي والجمهور على الخوارج من البروتستانت فقتلوا منهم ألفي نفس، وقد حذا سكان الولايات حذو أهل باريس في ذلك بعامل العدوى فسفكوا دماء ما يقرب من ثمانية آلاف نفس. واستمرت المجازر المتبادلة بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا قرابة القرنين من الزمان وهم يتقاتلون كالبهائم على قضايا لاهوتية لا يحلها حلال . وحده فولتير كان يصرخ وينادي ارحموا الشعب الفرنسي ارحموا الفقراء المرهقين فكلنا فرنسيون وإخوة . 
 والسؤال الذي نسأله جميعا" والذي يحمل الإجابة من مدلولاته؟..  لماذا لا نستفيد من تجارب الشعوب المتحضرة , والتي كانت تقتل بعضها البعض إلى أن اكتشفت خطأها بعد سلسلة من الجرائم والمذابح؟... إلى متى يبقى مشايخ الدين يصبون الزيت على النار , ويؤلبون الناس ضد بعضهم البعض بدعوى الخوف على المذهب والدين كما كان يفعل القساوسة وسفهاء الكاثوليك والبروتستانت في عصور الظلام الفرنسية والذين كانوا يختبئون وأبنائهم في الأديرة والكنائس . إلى متى يبقى يُقتل الفقراء بلا ذنب سوى أن بعضهم ولد من هذه الطائفة والآخر ولد من غير طائفة , أقول الفقراء لأن الأغنياء إن لم يغادروا أو يهاجروا فلديهم حماياتهم ومحمياتهم.
 إلى متى نبقى نتذابح على قضايا تاريخية من نوع البيضة وجدت قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة . متى ندرك ونستوعب بأن الصراع في العالم هو صراع على المصالح والنفوذ والبزنس والمال فيما صراعنا على خلافات بين أسلافنا مضى عليها ألف وأربعمائة عام وهي قابلة للتكذيب والتأويل والاجتهاد . 
إن تاريخ الحروب الداخلية والأهلية يقودنا إلى حقيقة مفادها أنه عندما يسكن الزمان ستلعننا الأجيال على ما ارتكبناه بحق بعضنا البعض , بحق البشر والحجر , بحق الوطن والناس , وهذا يقودنا الى حقيقة ثانية بأن الوقوف على نفسية عصر من خلال نفسية عصر آخر أمر مستحيل. 

هامش 1 : إلى متى يبقى يُقتل الفقراء بلا ذنب سوى أن بعضهم ولد من هذه الطائفة والآخر ولد من غير طائفة
هامش 2 : متى نستوعب بأن الصراع في العالم هو صراع على المصالح والنفوذ والبزنس والمال فيما صراعنا على قضايا مضى عليها ألف وأربعمائة عام وهي قابلة للتكذيب والتأويل والاجتهاد

CONVERSATION

0 comments: