
أشدُّ أهل الضحيتين تفجُّعا على المقبرة كان سامي، الذي قَـتَـلَـهُ الندمُ على قتله لأبيه وعمِّه. لم يكن لديه الوقت لشراء زهور فمد يده على جدار الأرض المجاورة للمقبرة والتي كان يُخيِّمُ عليها مُنـَجِّـمٌ مغربي، وقطف رزمةَ زهورٍ بريةٍ بيضاء تميلُ إلى الصُّـفْرة ووضعها حول رأس كل من أبيه وعمه قبيل دفنهما. بكاهما بحرقة وسقى الزهور بدموع الحزن والأسى الحقيقيين، وودَّعهما بأسفٍ وندم.
رطوبةُ زهور الترياق ورائحته الكريهة النافذة بدأت تقتحم فَـمَ وأنْـفَ كلّ من الرجلين، أفاق أبو سامي الذي أدرك أين هو فارتعب هلعاً وراح يرتعش، وحين تعب استسلم لقدره وأغمض عينيه كي يُـكْـمِـلَ رحلتَـه إلى العالم الآخر في محاولةٍ لتغييب ذاته بعيداً عن عتمة القبر ونهش دوده لعينيه أولاً ثم لبقية جسده، ولكنه فتحهما حين سمع صوت شقيقه خليل بجانبه يهذر بنصف وعي بزهده بالأرض والمال فهمهم إبراهيم سائلاً أخاه بما يشبه هسيس نصف ميت:
- كم مرة قلتها لك ؟ ألم تخطر في بالك عتمة القبر يا خليل؟
- لا أدري لماذا كنت أحسبها لسواي، قد يكون السبب طمعي في هذه الدنيا. ندمتُ وأعتذر منك يا أخي الحبيب!
في صباح اليوم التالي كان أهلُ القريةِ في قاعة البلدية يَحتَـفُون ويُهنئون الشقيقين الـمُـتَحابَّـين المتصالحين بعودتهما إلى الحياة، وبعودة أواصر المودة بينهما وبين أبنائهما الذين كانوا حولهما، وكان أكثر المبتهجين سامي، الذي كانت فرحته ستتضاعف لو عَرفَ بأنه هو سبب عودتهما للحياة.
0 comments:
إرسال تعليق