فلسفة فن الشيء: "لوحة مأدبة العرس للفنان شوقي دلال"/ د. شوقي ابو لطيف

"الشيء بالشيء يعرف": عنوان الأبجدية الجديدة للفنان شوقي دلال، الذي عُرف انه لاعب عابث بالخطوط، يرتشف الحسن بشغف طفولي. لا يباريه فيه سوى الذين أوتوا ملكة الانشداه، وكأني به يميل بعد تجاربه المدهشة في "أبجدية اينانا"، إلى تأسيس فني يختلف لكنه يستكمل، فهو ضنين ان تستنفد الكلمة بالصورة، لان للكلمة أيضاً فعل التكوين والخلق، الذي يتعدى الصورة الى مدالف الايحاء. وإذ يتوسع شوقي دلال في الرسوم الكتابية نحو ما لا نهاية البدائية، فهو يخلص الى ان عملية رؤية اللوحة تتم بوصفها تمثيلات لأشياء حقيقية، يعرفها من ينظر فيها، لأنها أشياء مجسدة أكثر مما هي تعريفات مجردة، مما يعطي للفن انتشاراً تنحسر معه المشهدية الارستقراطية، لصالح المشهدية الديمقراطية، فيتسع التذوق وتغتني القصدية البكر، ويتألق الجمال بالعين المطلق، ليس غريباً ان يصدر عن شوقي دلال مثل ذلك البريق في الفن، فهو أستاذ الادراكيات الطفولية، التي بدأت تتمظهر في ما كونته رسومه من أشكال للكتابة، تحاكي الأبجدية في أصولها المسمارية والهيروغليفية والفينيقية. انه يستجري المعطيات الشيئية تحت حواسنا بهذه الصورة المشفهة أو تلك، والتي تنتج ذاتها بذاتها، لتجد الحواس ان ما تسأل عنه تتولى الأشياء الإجابة عليه. فنفهم الشيء ونتوغل لمعرفة معطى جديد بمعزل عن التحليل؛ لأن الصورة شيء يصوت، فيدخل الى الإدراك نغش يهتز معه الجسد، الذي يتموضع في عالم اللوحة المفتوح، لكأنما شوقي دلال وهو يرسم ما يتشفّه: "عندما تناديني الأشياء اسمع صوت الشيء تائهاً في صدى الأشياء"[1]، يريد ان يقول مع موريس ميرلو بونتي: " ان العالم الثقافي غامض، لكنه حاضر مسبقاً "فهذه الرؤية الفنية الجديدة إذ تستجمع طفولية اللغة في أصولها الحضاربة، فلأنها تصدر عن فنان يتبرأ فيه الطفل من كل تعاريف الهندسة، ليزركش باللمسة ما لا يحده البصر، وليبصرك بالشفاهة، إذ يكتبها الى جانب الصورة، ما تنطق به اللوحة.وذلك انه اذا كان البصر يحلّل فإن الصوت يجمّع.
ما يريده شوقي دلال هو ان ينطق الشيء بالشيء، فالأشياء هي ألغاز صوتية متناغمة، إذ لا يمكنك رؤية شيء ما إلا بالإنصات إلى الميلوديا الشيئية، التي تنساب في حقول مدركاتك، لذا برأيه " فالجواب عن شيء يفسد متعة السؤال عن الأشياء"، لأنه يقطع السيال الشيئي المتناغم، وهذا ما يشكل العنوان الأول للوحة شوقي دلال الشفاهية، ليستكمل ما بدأ به في "أبجدية اينانا"عندما هيمنت هالة الطائر الاسطوري على كل نوافذ اللوحة، من أبعاد وألوان وأشكال فبرزت الكتابة في جنبات اللوحة ، كرموز تعبيرية لصوت أو اغرودة منتشرة في مسكب اللون، وفي حنايا الخطوط. حتى انك لتجد في أبجدية اينانا ان النغمة أو الشجرة أو السمكة. كانت لتبدو رمزاً لحشرجة الريح في الشيء أكثر منها تصويراً لشكل الشيء.
ما يضيفه شوقي دلال في هذه الأبجدية الجديدة، هو النفحة الجدلية التي تعود بنا الى ما أسفرت عنه الحضارة الهندية من رقصة كونية، عنوانها " شيفا ". الذي يجسد رقصة الدمار والخلق. ويحسم ان الحقيقة تكمن في رؤية هذا الجدل من إيقاع بين يد تطبل،ورجل تدوس على شيطان الجهل.ولقد لامس الفنان ذلك كله عندما رسم الكينونة مشفهاً الصورة بالقول:"ان معادلة الكون رهيبة شيء يأكل شيئاً وتتكاثر الأشياء". فضلاً عن هذا فان ريشة شوقي دلال مكلفة بتطهير اللاوعي الجمعي للبشرية، عندما تعلن" ان وهم الاشياء خوف من شيء"، وهذا ما يبين لنا أهمية الشفاهي للوحة .إذ ان سمة الشفاهي هي في صدوره عن اللاوعي. في حين ان الكتابي محدد بالوعي، لذا فان مشروع شوقي دلال هو مشروع عالمي، لأنه يؤذن بولادة الحالة المشاعية للفن. بايقاظ الفطرة وايقاد الاحاسيس الذوقية، للرد على ما تطلقه الخزعبلات الحاسوبية من تدفق للرسوم الضوئية، غير المناسبة لتسامي ذاكرة الإنسان.
         في لوحة "مأدبة العرس"، التي شهدت ولادتها في الثامن من آب 2009 يرصد الفنان شوقي دلال صخباً دفيناً يتموج، فيقصي الوليمة، كي يبرز "ان رغبة الشيء حلم يرتعش في خلايا الأشياء"، لتلاحظ انه في اللا إطار، الذي تتوسم به اللوحة، هنالك ينسكب الشيء المكتوب بلغة مسمارية تعتلي فيها عين الوجود الحارس، وكأنها مسلّة تشي بترددات سماوية، وبشائر سرابية، ثم تنفتح اللوحة على يمّ يضطرم أكثر مما يبترد، "فكما ان هناك شيء هناك أشياء" و "اذا كانت الاشياء لا تسمع فلماذا الصراخ؟". إذ ان بوح الشيء يتضاعف فتبوح الأشياء، والأناسي الذي يتجنب سماع بوح الشيء يتطلع الى المسمارية لعله يلتقط معنىً يريده. اما رفيقه الآخر فيبتغي ان يمتلىء بالصوت، لعله الأنثى التي تتوهج بكونها صنو الزغاريد والمراكب المترحلة والأشعة المسلولة في الماء، فهذه كلها ترصّع تاجها العرائسي، كقباب يتناهى إليها الصوت، على قوس من فسيفساء الكلام.
ان القصدية التي يبرع شوقي دلال في تكوين صرختها التشكيلية، تحضر فيما يتعالق من أبجدية الشيء، فهو يجري الصخب في تصويرات شفاهية، ليحدث انقلاباً في فلسفة الفن من لغة الى أخرى، فبعد ان كانت اللوحة مكتوبة أصبحت منطوقة، وبعد ان كانت مسكناً لحرف مكتوب أصبحت مركباً لحرف مصوّت، فما كان يجعل ثبات الشيء في المسكن مرتكزاً الى وعي أولي للعالم المتشيء، أصبح يجعل من ثبات الشيء في الانتقال مرتكزاً الى اللاوعي الشمولي للوحة. إذ كثيراً ما يبرع شوقي دلال في نسجها ستيريوسكوبياًُ. فتظهر ضمن إطار اللوحة اللونية مجموعة من الصور المتحركة، التي نألفها في الحركات السريعة للنقاط الضوئية المخرجة تلفزيونياً. تغتني لوحة دلال اذاً بقدرات تتعدّى الضبط الحسي المباشر للصورة ككل، مثلما تتعدى الربط الذهني المحكم لأجزائها، حيث يجول الفنان في عوالم مبتدعة للمناسبة، فتغدو مأدبة العرس إبجارأًًًًًًًً في البريّة، وهوماً في المناسك المكبوتة للفرح وزغردة للأماني على ضفاف أمواجه. هنا تتسلل إليك المشاعية بنطق يطفو على وجه الماء من الأعماق، لكأنما الطوفان يدّخر سكون الزهور، التي تزين المأدبة بأسرابٍ لا يجمع بينها لون أو وميض. إذ ان في لوحته المأدبة وقفات لمآدب تائهة، حيث تراه يستطرد ليقول: "يسألونني عن شيء (المأدبة). فليسألوا عن الأشياء (المآدب التائهة)". ثم يضيف "عندما يمر الشيء تحدق الأشياء"، ترانا هنا أمام رؤية يستحضرها هيجل في سياق الإبداع الفني، عندما يقتبس بيتين شهيرين للشعر عند أفلاطون، يناجي فيهما النجمة Aster بالقول:" حين تنظرين إلى النجوم، وانجمتاه، أود لو كنت أنا السماء ذات المئة عين لأتأملك من عالي سمائي"[2]، بما يعني انك وكي تلامس الجمال ينبغي ان ينظر هو منك إليه، من نوافذ إحساسك، الراكنة إلى خزان الحياة، فتستطيع إذ ذاك ان تعبر بخيالك من الصورة الصامتة، الى الصورة الناطقة بالعالم المرقش المتعدد الألوان، الذي يشترط هيجل حفظه في ذاكرة الفنان العبقري، وهذا ما يشي به فن شوقي دلال الشفاهي، حيث يصل الى رؤية ان " الابعاد الخيالية للشيء هي ملامسة لا محدودية الأشياء"، وحيث تصل الى ان تقول: وبعد هنيئاً لشوقي دلال ما أفصحه عن الشيء في فلسفة فن الشيء.    

[1] ميرلوبونتي،موريس، ظواهرية الإدراك، ترجمة فؤاد شاهين، ط1، معهد الإنماء العربي،بيروت، 1998،ص284
[2] هيجل، المدخل إلى علم الجمال، ترجمة جورج طرابيشي،ط3، دار الطليعة، بيروت، 1978 ،ص249 – 250.
باحث وناقد وكاتب

CONVERSATION

0 comments: