الحروب الافتراضية، وثورة الهوامش اعلاميا/ د. عبدالله المدني

عودتنا دبي في كل عام على عقد منتدى الاعلام العربي. وفي دورته الأخيرة الثالثة عشرة التي كان لي شرف المشاركة فيها تم التطرق إلى جملة من المحاور من خلال عشر جلسات مكثفة على مدى يومين متواصلين، وبمشاركة نحو ألفين من المشتغلين في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة.
ولما كان من الصعب ــ بسبب محدودية مساحة المقال ــ الحديث عن كل المحاور، فإني سأتناول ما دار في جلستين من جلسات المنتدى تحديدا لأهميته من وجهة نظري الشخصية في ما خص عنوان المنتدى العريض وهو "تخطي واقع الاعلامي العربي إلى آفاق المستقبل للتعرف على فرص التطوير والابتكار والابداع كسبيل للبقاء والتميز".
الجلسة الأولى التي عــُقدت تحت عنوان "الحروب الإفتراضية" أجمع فيها المتحدثون من السعودية والإمارات والعراق والأردن على أن الحروب الإفتراضية، وهي حروب غير أخلاقية لا تعترف بالقيم ولا تخضع لقوانين وإنما تهدف إلى هدم وتخريب مقدرات الشعوب طبقا لتعريف صديقنا الدكتور علي النعيمي رئيس جامعة الإمارات، على أنها باتت تشكل تحديا للدول والحكومات لأن تقنيات الإتصال ووسائط ما يسمى بالإعلام الجديد أو الاجتماعي غيرت من مفهوم الحرب والأمن القومي تغييرا جذريا. فهي قادرة اليوم بكل سهولة، ومن خلال حسابات انترنتية وهمية أو تغريدات مشحونة بكل ما هو بذيء وسام أو صور مفبركة تــُبث على "اليوتيوب" أن تدخل البيوت، وتقتحم عقول الشباب وأنصاف المتعلمين، وتهدم القيم والثوابت والمعتقدات، وتحدث الفوضى التي تتمناها القوى الأجنبية المتربصة بوطننا العربي، دون أن تطلق رصاصة يتيمة أو يــُعطب لها ترس من ترسانتها الحربية أو يــُقتل لها جندي واحد. وبعبارة أخرى لم تعد الدول والجماعات المعادية في حاجة إلى أسلحة فتاكة ووسائل تدميرية مكلفة لغزو خصومها، بقدر ما هي محتاجة إلى محترفي الهجمات الالكترونية.
على أنّ من يظن أن الحروب بواسطة وسائل الإعلام الجديد تقتصر على تخريب العقول او توغير الأفئدة ضد نظام ما عبر إستغلال قضية فساد أو إنقلاب قطار أو شغب في ملاعب الكرة أو تسليم حقيبة وزارية لشخصية مثيرة للجدل فإنه واهم لأن تلك الحروب تتعدى مخاطرها إلى ما هو أكبر.
هذه الجزئية تناولها بالتفصيل أحد المشاركين في الجلسة وهو الأستاذ معتز كوكش الخبير الأردني في تقنية المعلومات ومكافحة الجرائم الالكترونية حينما أشار إلى تنامي الهجمات الافتراضية في العالم حتى وصلت إلى ما معدله 16 هجمة في كل ثانية، الأمر الذي كلف الاقتصاد الامريكي في عام 2013 مثلا 250 بليون دولار من الخسائر، وكلف الإقتصاد الخليجي في الفترة ذاتها نحو بليون دولار. وأضاف كوكش أن الدراسات والتحريات دلت على أن 57 بالمئة من الذين يشنون مثل هذه الحروب هم من فئة المراهقين الذين ينجرفون إلى ذلك بهدف التفاخر في أوساطهم الاجتماعية.
ومما لاشك فيه فإن هناك من الدول والجماعات والتنظيمات والافراد المتمردين والخائنين لأوطانهم من يسره حدوث مثل هذه الخسائر لدول مجلس التعاون الخليجي تحديدا. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن قيام دولة إقليمية مجاورة عبر أذرعتها العاملة في واحدة من أكبر الشركات النفطية في المنطقة بهجمة إلكترونية قبل عامين على حواسيب الشركة وتعطيل أعمالها لبعض الوقت يمكن إدراجه في هذا الاطار.
لكن هل لوسائط الإعلام الحديث دور في إزهاق أرواح الأبرياء؟ الجواب هو نعم!
فمن خلال القيام بهجمات إلكترونية ضد منظومة وشبكات السفر والملاحة، يمكن إحداث إرباك شديد في حركة إقلاع وهبوط الطائرات مثلا، الأمر الذي قد يؤدي إلى إصطدام الطائرات بعضها ببعض أو سقوطها وبالتالي إزهاق أرواح المئات من المسافرين الأبرياء، وفي هذا السياق لا يستبعد أن تكون حادثة إختفاء الطائرة الماليزية ناجمة عن هجمة إلكترونية قامت بها جماعة معادية لماليزيا لسبب من الأسباب. 
ومن خلال بث مشاهد ومعلومات عن كيفية صنع المتفجرات وتفخيخ المركبات والأماكن العامة يمكن مساعدة الإرهابيين والمتطرفين على تنفيذ مآربهم والتنفيس عن أحقادهم ووحشيتهم. 
ومن خلال التغريدات الحماسية المغلفة بغلاف ديني يمكن مصادرة عقول وأفئدة الشباب الغر ودفعهم إلى أتون معارك خارجية لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وفي هذا السياق نستحضر ما قاله مسؤول أوروبي من أن الجماعات المتشددة أقنعت 700 أوروبي للذهاب إلى سوريا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
في السؤال حول كيفية التصدي لهذا الوباء الذي يزداد إنتشارا، مع المحافظة في الوقت نفسه على أحقية الناس في استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي وتقنيات الاتصالات الحديثة للتعبير عن آرائهم، إتفق المتحدثون على ضرورة تحصين مستخدمي هذه الوسائل والتقنيات، ولا سيما الشباب الغر المندفع، بالقيم والأخلاق والمباديء كي يتصدوا ذاتيا للمخاطر المتربصة بأوطانهم، وكي يتجنبوا إيقاع أنفسهم في أيدي جماعات ودول تضمر الشر للإنسانية جمعاء تحت شعارات أكل الدهر عليها وشرب ونام.
الجلسة الأخرى التي شدت إنتباه الكثيرين، وحدث فيها بعض اللغط الغريب على أجواء وفعاليات هذا المنتدى الإعلامي المتميز هي تلك التي أدارتها الاعلامية المصرية جيهان منصور وتمحورت حول ثورة الهوامش في الإعلام بمعنى تحول الخطاب الهامشي إلى خطاب رئيسي للمتلقي. ذلك أن الإعلام الجديد نجح في إبراز شخصيات هامشية من القاع الاجتماعي لتتصدر المشهد على حساب من قضى جل عمره في التحصيل الاعلامي الاكاديمي والابداع من خلال وسائل الإعلام التقليدية. فمجرد قيام شخص من الفريق الأول بكتابة تغريدة إنفعالية على حسابه تتقاطع مع ما يدغدغ مشاعر العامة من الناس كفيل بأن يحوله بين عشية وضحاها إلى نجم من نجوم الإعلام تتداول الجماهير إسمه.
ولعل السيدة  منى البحيري هي أبرز من يجسد هذا المثال. إذ صارت فجأة تنافس كبار نجوم الإعلام المرئي والمسموع ممن قضوا دهرا في بلاط صاحبة الجلالة السلطة الرابعة، وذلك فقط بسبب ظهورها في فيديو على موقع اليوتيوب وهي تصرخ قائلة "شات آب يور ماوس أوباما" كرد على تدخل الرئيس الامريكي في شئون بلادها. ولأن البحيري كانت حاضرة في الجلسة كمستمعة فقد مــُنحتْ حق الرد على ما أثير حولها، فلم تقل شيئا سوى أنها لا تتكلم "الانجليزية الفصحى" ..هكذا!
والحال أنه مع هذا النوع من الأعمال تضيع معايير العمل الإعلامي الرصين، ويفقد الإعلام مصداقيته، وتتحول وسائله إلى منابر للتضليل أو الشتم أو التحريض دون اي رقابة أو قيود، كيلا نقول إلى منابر للكم والتنابذ المخجل على نحو ما يجري في بعض الفضائيات العربية.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: مايو 2014 
الايميل: Elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: