الوسط اليوم تحاور المناضلة الفلسطينية حنان عوّاد ـ القسم الثاني/ امال عواد رضوان

حنان عوّاد تتحدّثُ عن مؤسّساتٍ وأفرادٍ لا يمكنهم المجابهةِ رسميًّا. هل هناك ممثّلٌ كسُلطةٍ فلسطينيّةٍ يمكنُها أن تُطلقَ بياناتٍ وتُصدرَ قراراتٍ تمنعُ هذهِ المؤسّسات القادرة، بنقل مكاتب القدس إلى أماكن أخرى؟
أقولُ لكِ ما حصلَ في عهد الرئيس الراحل. كانت القدس مركزيّة، فما كان يتأخّرُ عن أيّةِ ورقةٍ فيها موضوعٌ يخصّ القدس، وكان قائدًا حقيقيًّا للقدس، ولكن بعدَ استشهادِه تزعزعَ وضعُ القدس، هذا أوّلًا. وثانيًا، كثيرٌ مِن المؤسّساتِ توقّفَ الدعمُ عنها فكيف ستتحرّك؟ وللأسف، لدينا محافظة، والمحافظ يقومُ بتدبير وإدارة شؤون القدس، ولكن يَنقصُنا القائدُ السياسيّ في القدس، ومرجعيّةٌ سياسيّةٌ مثل أبو عمّار.
وماذا عن أبو مازن حاليًّا؟
ابو مازن هو رئيس، ودائمًا يتحدّث عن القدس ويهتمّ بأمورها، وهو حقيقةً يقومُ مشكورًا بعُمقٍ وبقدرةٍ، في ترتيب البيتِ الفلسطينيّ على الصعيد العالميّ وتثبيته، وقد أعطى وأوْلى لِكثيرٍ مِن المسؤولين في داخل سلطتِه، أن يقوموا بمهامّ، ومحافظةُ القدس ومحافظُها يقومونَ بإدارتِها ومتابعةِ مؤسّساتِها في حدود الممكن السياسيّ، فهناك أزماتٌ ماليّةٌ تمرُّ بها السلطةُ الوطنييّة، فقضيّةُ القدس قضيّة كبرى، فهنالك محاولاتٌ لأخذ المواقع المُهمّة، فالقدس لا تحتاجُ فقط نقدًا، بل تحتاج إلى مبالغَ عاليةٍ جدًّا لحمايةِ التاريخ والتراث والأقصى، والقدسُ تحتاجُ إلى قائدٍ ثوريٍّ سياسيٍّ تابعٍ للسلطة الفلسطينيّة يُنفّذُ برؤيا، وهذا غيرُ شغل المحافظة وغير دوْر المحافظ، فيكونُ رجلًا سياسيًّا ومرجعيّةً سياسيّة، يرجعُ إلى الشعب الفلسطينيّ في البُعد السياسيّ، وهذا جدًّا مُهمٌّ لترتيبِ الوضعِ الفلسطينيّ في مدينةِ القدس، فهناكَ حركاتٌ وتنظيماتٌ ومؤسساتٌ ونشاطاتٌ فلسطينيّة في القدس، ولكن تحتاجُ إلى قائدٍ جامعٍ خاصّ بالقدس غير الرئيس أبو مازن، وهذا القائدُ الخاصُّ ينقلُ الصورة الحقيقيّةَ بتفاصيلِها الى السيّد الرئيس، وعلى ضوئِها يتمُّ تفعيلِ الأمور. فلدينا وزارةُ شؤونِ القدس، ولدينا محافظة القدس، وشخصيّاتٌ وأعضاءٌ في البرلمان التشريعيّ، وكلٌّ منهم يقومُ بدورِهِ، ولكن نحتاجُ إلى دوْرٍ جامعٍ مُرتّبٍ مُنظّمٍ ومُبرمَجٍ، يُطلع سيدي الرئيس على كلّ ما يجري!
بما أنّكِ ابنةُ القدس ولكِ تاريخٌ سياسيٌّ حافلٌ وناجح، وأنتِ الجامعةُ لكلّ تفاصيل القدس وقضاياها، والمبادِرةُ والمُتحَمِّسةُ لهذا الاقتراح، فهل تغفلُ حنان عوّاد عن عرض الفكرة على المسؤولين، وعن ترشيح نفسها أو أحدهم لهذا الدوْر؟
  النقطةُ المُهمّةُ أنّ الإنسانَ المُناضلَ لا يُسوّقُ ذاتَه، رغمَ أنّ هذا الاقتراحَ هو ضرورةٌ حتميّةٌ ومُلحّة، ونحن نحاولُ أن نقولَ كلّ ما يجبُ أن يكون، ولكن صوتي وحيد، واصواتٌ عديدةٌ وتشكّلاتٌ أخرى، ولكن أقول: إنّ القدسَ بحاجةٍ إلى رجلٍ أو إنسانٍ مُعمّقٍ عميقٍ مُنْتَمٍ وحريص، يضعُ الوطنَ كأولويّة والقدسَ كأولويّة، قبلَ ما يريدُهُ أو يتمنّاه أو يكتسبه.      
 حصلت الشاعرة حنان عوّاد على العديد من الجوائز الدوليّة؛ أوروبيًّا وإفريقيًّا وفلسطينيًّا، ودخل اسمُها في العديدِ من الموسوعاتِ الثقافيّةِ الدوليّةِ والعربيّة. فما هي الجائزة الأقربُ لقلبك وشِعرِك على السواء؟
طبعًا الجوائزُ بشكلٍ عامّ هي تقديريّةٌ ومُحبّبةٌ للّذي يُقدّرُكِ من الناس والقرّاء والكُتّاب والمثقّفين لها تقدير، ولكن نحنُ أيضًا بعضُ الأحداثِ تعكسُ نفسَها على الجوائز، فإحدى الجوائز التي تلقّيتُها من إيطاليا عام 2004  قبل استشهاد الرئيس بفترة قصيرة، أخذتُها على مقاطعَ تُرجِمَت مِن "يوميّات الحصار"، وقد أُعطيتُ الجائزة في حفلٍ مهيبٍ جدّا، وكان الرئيسُ معنا على تواصل، فلمّا قدّموني وقدّموا فلسطين، كان الموقفُ مؤثّرًا فيه جلالٌ وعظَمةٌ وجماهيرٌ غفيرةٌ وشخصيّاتٌ سياسيّةٌ وثقافيّة كبيرة، فلذلك أُحسُّ بفخرٍ كوْن الكِتابَ نالَ الجائزة عن "يوميّات الحصار"، ولها العلاقة السياسيّة والتاريخيّة، وعلاقةُ الكتاب أيضًا بالرئيس الراحل تعطي معنى خاصًّا لهذه الجائزة! 
 أما زالت حنان عوّاد تُردّدُ "دثّريني يا ساحات الأقصى"؟
أردّدُها باستمرارٍ، فسأقول لكِ كيف كتبتُ هذه القصيدة. فأنتِ تعرفين أنّه أيّامَ الإغلاقاتِ والمواقفِ النضاليّة، كانت القوّاتُ الإسرائيليّةُ تَمنعُ المُصلّينَ مِنَ الدخول إلى المسجد الأقصى، ففي باب العمود تجمّعَ المُصلّون وقرّروا أن يُصلّوا في الشارع، هذا قبل خمس سنوات تقريبًا، وعند نزولي للقدس القديمة للمشاركة في بعض المظاهرات، وقفتُ جانبًا في باب العمود وهم يُصلّون، إذ استوقفَني المشهدُ، واعتذرتُ من الجميع وبقيتُ قبالة مشهدِ المُصلّين في باب العمود، فقرأ الشيخُ وبدأ المُصلّون يُصلّون، وحين قالوا "الله أكبر"، أطلقت القوّاتُ الإسرائيليّة النار، فاستشهدَ أحدُ المُصلّين على مرأى منّي، فصُدمت وعُدتُ إلى البيت، وكانت قصيدة "دثّريني يا ساحات الأقصى"، ويجبُ أن تُدثّرنا ساحاتُ الأقصى جميعًا، لأنّ الأقصى ليس فقط للمسلمين، وإنّما رمزٌ للقدس، والعبور إلى الأقصى وإلى كنيسة القيامة المجاورة أيضًا ممنوع، فبالتالي هذه التحدّيات التي تقف أمام القوّات الإسرائيليّة لأداء مناسك العبادة، أو السير في شوارع القدس العتيقة بكلّ رمزيّاتها، هي حقٌّ إنسانيٌّ مِن منعِ الإنسان الفلسطينيّ، لذلك في كلّ محفل وفي كلّ اجتماع ستُدثّرنا  ساحات الأقصى، لأنّ هناك تضحياتٌ مستمرّةٌ وتحدّياتٌ مستمرّة، ولا زال إصرارُ الإسرائيليّين على تهجير وقتل الشعب الفلسطينيّ، فطالما نحن تحت نير الاحتلال، طالما نحن لم نتحرّر بعد!
 وماذا عن "لؤلؤة إسرائيل"؟ هيكل سليمان؛ الي يُهدّد أساسات المسجد الأقصى؟
نحن كفلسطينيّين لم نقف ضدّ أيّ دين، وليس صراعُنا مع الاسرائيليّين كوْنهم يهودًا أو ذوي دينٍ يهوديّ، نحن نؤمن بالأديان جميعِها، لكنّ الصراعَ الآن هو ليس قضيّة دينيّة أو عبادة، بل هو سلبُ ونهبُ أراضي فلسطين، وتاريخ فلسطين، وحضارة وثقافة وتراث فلسطين، ونهبُ زمانِ مكان الإنسان الفلسطينيّ، وهنا نقطة الصراع، ولكن مَن يعبدُ في المعبد هنا أو في المعبد هناك، فالثورة الفلسطينيّة جمعَت في كوادرها وفي مؤسّساتِها الحسّاسة جدّا الكثيرَ من اليهود، فمثلًا وولي ديفس عضو في المجلس التشريعيّ عندنا، فليس فقط يهوديّ، بل مُتنوّرٌ ويفهمُ القضيّة الفلسطينيّة الوطنيّة، ولذلك، فصراعُنا مع اليهود هو ليس صراعًا دينيًّا بل صراعًا سياسيًّا، وقد حاولوا أحيانًا أن يُحوّلوهُ إلى صراع دينيّ وعربيّ مقابل يهوديّ، لكن هو صراعُ أرضٍ ووطنٍ وتاريخٍ وحضارةٍ وتراثٍ وهُويّةٍ، هذا هو الصراع الحقيقيّ! 
أنت عضو مؤسّسٌ في اتّحاد الأدباء الفلسطينيّين، وأسّست رابطة القلم الفلسطينيّ. هل ما زال القلمُ الذي أسّسَ للقلم ينتمي لذاتِ فكرةِ التأسيس؟
طبعًا، الريشة ما زالت هي، والمداد ما زال هو، فاذا تلوّن المدادُ يعني أنّه تلوّن الموقف، لكن نعم لا يغفلُ الكاتبُ والإنسانُ عن الظروفِ العصيبة التي مررنا بها، فالرابطةُ القلميّةُ هي فرعٌ من مؤسّسةٍ دوليّةٍ تأسّستْ عام 1921، وكان يجبُ أن نكونَ فرعًا منها. بالطبع لم يكن هنالك صوتٌ للصوتِ الفلسطينيّ، إحدى برامجنا السياسيةِ في أحد اللقاءات التي كنتُ بها مع الاخ المرحوم أبو جهاد والرئيس الراحل ياسر عرفات قلت لهم: نحن أعضاءٌ في جميع المؤسّساتِ الصديقة، والأصدقاءُ فيها معروفون ومُسانِدون، فلماذا لا نحاولُ أن نخترقَ المؤسّساتِ التي بين قوسين غيرَ صديقةٍ أو مُغيّبةً تمامًا عنّا؟ فكان جوابُ الرئيس الراحل: هذا صعب فهل تقدرين؟ فقلت: سأحاولُ وإذا نجحتُ نجحتْ فلسطين. وهكذا بدأتُ بإنشاءِ الرابطة عام 1990، فبدأتُ أجمعُ مجموعةً مِن الكُتّاب، وبدأتُ أراسلُ الرابطةَ الدوليّةَ في لندن، وكان الطريقُ صعبًا وشائكًا كما قال أبو عمّار، وكأنّهم فوجئوا وصُدموا بفلسطينَ تَطلبُ عضويّةَ رابطةِ القلم الدوليّ، إذ كانَ لها حضورُها وقيمتُها وفيها كُتّابٌ معروفون، فأوّلُ رسالةٍ بعثناها مُوقّعةً، قالوا: حسنًا سندرس الموضوع، ولكن عليكم أن تُوقّعوا على وثيقةٍ توقّع عليها جميعُ الفروع! وما هي الوثيقة؟ أوّلًا: نبذُ الإرهاب، وثانيًا: شجبُ الفتوى لسلمان رشدي الإيراني، الذي كتبَ عن الآيات القرآنيّة. فطبعًا حين اجتمعنا، كُتّاب الرابطة الفلسطينيّة قالوا إنّ الشروط صعبةٌ. فأرسلت رسالةً فحواها يقول: نحنُ نستغربُ من رابطة قلم دوليّ عريقة ولها تاريخ، أن تطلبَ من الوفد الفلسطينيّ أن يَنبذَ الفتوى ضدّ سلمان رشدي، بمعنى أنّكم وضعتم الوفدَ الفلسطينيّ في مقام التطرّف والتعصّب الدينيّ، وهذا لا يجوز، لأنّ فلسطين مسيحيّين ومُسلمين وليبراليّين وكُتّابٍ يؤمنون بالموقف، ونأسف.. لن نوافق على هذا الموضوع، فنحن نوافق على حرّيّة التعبير. وطبعًا وضعتُ كلّ المُعطياتِ المنطقيّة جيّدًا، فوافقوا على هذا النصّ رغمًا عنهم، لأنّنا رفضنا الخضوعَ لوضعِنا في هذه الدائرة، فما علاقتي أنا كليبراليٍّ وغير مسلم أو بوذيّ بالتطرّف وبرشدي؟ فالكاتبُ هو كاتبٌ للحرّيّة، والرسالة كانت جميلة ومُقنعة، وفي عام 1990 ذهبنا للمؤتمر كمراقِب، حين كانت تمامًا اجتماعاتُ مدريد، وكان عليّ أن أقدّمَ كلمة فلسطين، ولكنّ الإسرائيليّين في المؤتمر جُنّ جنونُهم، حينما عرفوا أنّ فلسطين سيكونُ لها وجودٌ وقيمةٌ في الرابطة، فبدؤوا يشتغلون، وأرسلوا لكلّ فروع العالم في رابطة القلم الدوليّة رسائل، تخبرُهم فيها أنّ الفلسطينيّين إرهابيّين، وهدفهم الاستراتيجيّ إلقاءُ إسرائيل في البحر، فلا توافقوا على رابطة فلسطين، فيمكن أن يكونوا "رابطة عرب" أو أيّة تسميةٍ أخرى، ولكنّي في وقت المؤتمر تحدّثت بأسلوبٍ أدبيّ بعيدٍ عن الأسلوب السياسيّ المباشر، وعن وقائعَ ومقاطعَ أدبيّةٍ تحملُ الهمَّ الفليسطينيّ من محمود درويش وغيره، فأكثر من 500 عضو في قاعة المؤتمر وقفوا وقفة إجلال، ولكنّ المندوبَ الإسرائيليّ حين رأى ذلك، وقف على المنصّة قائلًا: لا تنخدعوا بهذه الفتاة الرقيقة، إنّها صحيح رقيقة، ولكنّها هي ضمن الإرهاب، وتريد أن تلقي بإسرائيلَ إلى البحر، وجميعُ مَن معها هم من الإرهابيّين، فوقفتُ وابتسمتُ وقلت: أستغربُ لكاتبٍ من المفروضِ أن يَحملَ الكلمة، ولا يدري ماذا يجري في مدريد؟! ولا يُتابع ما يجري مِن مُخطّطاتِ السلام، ويحملُ هذه الفكرة القديمة؟ فمَن الذي سيرمي الآخر؟ أرجو أن تقولوا لهذا الكاتب أن يقرأ جيّدًا ويُتابع الأحداث، فهل يُنكرُ أحدُكم أنّ هناك أرضًا محتلة؟ وهل تُنكرون أنّ هناك كُتّابًا فلسطينيّين مُعتقلون في سجون الاحتلال؟ وهل تنكرون أنّ لنا هُويّة وطنيّة فلسطينيّة؟ وحين أُعلنَ التصويت على رابطة القلم الفلسطينيّ، كان الإسرائيليّون قد جلبوا عشرة أشخاص يدورون بين أعضاء الرابطة، ليمنعوهم من التصويت، ولكن الحمدلله نجحنا، وبدأنا نعملُ بشكلٍ جدّيٍّ ورسميٍّ، ونحن عضوٌ معترَفٌ به دوليًّا في جميع اللجان السياسيّة والثقافيّة ولجان المرأة وجميع اللجان.
إذن؛ رابطةُ القلم الفلسطينيّ هي مقتصرةٌ على الضفّة والقدس وغزة؟ وماذا عن الشقّ الأخضر؟
 نعم، هذه القضيّةُ سياسيّة، فالإسرائيليّون لعبوا هذه اللعبة كي يُضيّعوا فكرة فلسطين وسيادة الدولة الفلسطينيّة، فقالوا: لماذا لا يَنضمّ الكُتّابُ العرب الإسرائيليّون إليكم؟ فأنا كنتُ قد كتبت للكاتب أنطون شمّاس في ذلك الوقت، أدعوه ليكونَ عضوًا في الرابطة، وكان في أمريكا مع إدوارد سعيد، وسمعا عن المساعي والجهود في الوصول إلى الرابطة الدوليّة واستغربا، لأنّ الفكرة ليست سهلة فكتب يقول: بما أنّني أعيشُ في الداخل "إسرائيل"، فلو وافقتُ فإنّي ألغي فكرةَ إقامةِ فرعٍ يُمثّلُ عربَ الداخل.
وهل هناك اليوم فرعٌ لفلسطينيّي الداخل في رابطة القلم الدوليّة؟
لا، فالإسرائيليّون أرادوا أن يُسوّفوا القضيّة، بمعنى؛ طلبوا من المكتب الرئيسيِّ أن يُسمّوا الفرعَ "رابطة العرب" وليس "رابطة فلسطين" بمعنى؛ أن لا تكون حدود ولا سيادة ولا دولة فلسطين، وقد كان معي رسالة انطون شمّاس من الداخل، فعرضتها وقرأتها في المؤتمر!
 وهل فكرة التأسيس ما زالت تنهلُ من ذات الأهداف التي أُسّست عليها؟ وأين أنت الآن من هذيْن المقاميْن الاتحاد والرابطة؟
بالطبع تطوّرنا كثيرًا باتّجاه العالميّة، وأصبحنا أعضاءً في مؤسّساتٍ عالميّة كثيرة، نُمثّلُ فلسطينَ في المؤتمراتِ، ونحوزُ على الجوائز، وصارَ لنا كلمتُنا السياسيّة، وكما قلنا لا نفصلُ فلسطين السياسيّة عن الأدب، في كلّ حدثٍ سياسيٍّ فلسطينيٍّ من خلال الموقف ومن خلال الرابطة، وكذلك استضفنا آلافَ الكُتّاب العالميّين الذين جاؤوا تضامنًا مع القضيّة الفلسطينيّة، وهناك الكثيرُ مِن الكُتّاب الذين يأتون وليس لديهم المعلوماتُ الكافية، فلذلك نجمعُهم مع الكُتّاب ونزورُ المناطق، فكتبوا عن فلسطين قصائدَ ورسائلَ وتقاريرَ من أرقى ما يمكن، وهذا هو الدوْر من خلال بناء الجسور الثقافيّة والسياسيّةِ ما بين فلسطين والعالم، ما بين الكُتّاب الفلسطينيّين وكُتّاب العالم، وبالتالي رحلاتُ التضامن هذه والزيارات، وعقدنا سبعةَ مهرجاناتٍ ثقافيّة في مدينة القدس، وكانت تُفتَتحُ في مدينة القدس بكلمةِ السيّدِ الرئيس مطبوعةً ومُوزّعة!
وماذا عن المهرجات التي نراها اليوم؟ فهل للرابطة يد ودور فيها؟
 طبعًا، فهناك كلّ مؤسّسةٍ تقومُ بمهرجانِها، ولما يكونُ لنا دوْرٌ في مهرجان ما نشارك فيه، ونحن الآنَ نُعِدُّ لبرنامجٍ قادمٍ إن شاءَ الله، يُمثّلُ الأدبَ والسيادة، ولكن كلّما نظّمنا لهذا المهرجان يحدث حدث، فكان المهرجان السنويّ الأوّلُ حولَ الأدب، والمهرجانُ الثاني حولَ الأدب والأصالة، والثالثُ حولَ الأدب والنكبة، والرابعُ حولَ الأدب والدولة، ومهرجانات أخرى، ولكن حين برمجْنا ودعوْنا للمهرجان حول "الأدب والسياسة" عام 2006، وكان لا بدّ أن نُنفّذ، لكنّ الظرف السياسيّ أتى مُغايرًا وبغير توقّع، فدارت الحربُ على غزّة، وشُلّت المواقعُ كلُّها طبعًا، وخافَ بعضُ الكُتّابِ من الحضور، وبذلك تأجّلَ مهرجانُ السيادة ودائمًا يُؤجَّل، وقد وقفتُ على رأس الرابطة منذ تأسيسِها حتّى اليوم، وحاولتُ أن أعطي المُهمّة لآخرينَ في المجموعة ولكن لم يُحبّذوا، لأنّ فيها شائكةً سياسيّةً ومواقفَ صعبةً ورؤًى مُعيّنةً، يجبُ أن تقرئي ما بين السطور وخلفها وأن تعطي، فهي فرعٌ لفلسطينَ وليست فرعٌ لحنان أو لمجموعةٍ معها أو لكُتّاب، لأنّهُ يتغيّرُ الإنسانُ وتبقى في النهاية فلسطين!
الصراع استمرّ طويلًا بين الكاتب الفلسطينيّ وبين الرقيب العسكريّ الإسرائيليّ. إلى أيّ مدى نجحَ مقصُّ الرقيب في قمع الصوت الفلسطينيّ منذ عام 1967؟ وما هي الأشكالُ التي يتّخذُها اليوم؟
رغمَ وجودِ الحرّيّاتِ المُتعدّدةِ والإعلامِ المُتعدّدِ، وإمكانيّاتِ القراءةِ والكتابةِ والفاكس وكلّ الأجهزةِ المُتوفّرة التي يمكن أن ترسلَ ما تكتبينَه وما تريدين نقلَه مِن أفكار، إلّا أنّكِ قد تُجابَهين عند الجسر وتعودين، فقد يكون هناك مؤتمرًا هامًّا يَحتاجُ إلى الصوت العمليّ، وليس فقط البيان أو الرسالة أو القصيدة!
فمثلًا، مُنِعتُ في أكثرَ مِن مؤتمرٍ أن أذهب إليه، ففي العام الماضي كان هناك مؤتمرٌ ستاخذ فيه فلسطين "رئاسة منظّمة المرأة العالميّة في السلام والحُرّيّة"، وكنتُ أنا المُرشّحة ولكنّي مُنعتُ، وبالتالي لو توضع فلسطين في السياق، فإسرائيلُ تقومُ بهذه الأدوارَ، وتمنعُ الكُتّاب مِن التحرُّك في المحافلِ والأمور الهامّةِ، وتخترعُ أيّ مُبرِّرٍ وأيّة حُجّةٍ، فإن مرَرتِ عن الجسر يمكنُها أن تمنعَكِ مِن المطار وتعود. وكانوا في السابق يُعرقلونَ سفري بالتفتيش المُستمرّ إلى أن تُقلعَ الطائرة دوني ولا أسافر، فهناكَ الكثيرُ مِن العراقيل التي عانيْنا ونعاني منها، ولكن الآن عبْرَ الإنترنت يمكنُ إرسالُ المقال، وعبرَ التلفون والفاكس، ولا بدّ أن يجدَ الكاتبُ الطريق، وأنتِ تعرفينَ أنّ الاحتلالَ يَخلقُ عواملَ التحدّي بشكلٍ أكبر، والبحث عن طريقةٍ لإيصالِ المعلومةِ أو لتوصيل الفكرة، وطبعًا كثيرًا ما تُعيقُ في إيصالِ الكُتبِ إلى معارضِ الكتبِ الدوليّة، ولكن يظلُّ الإصرارُ، فليست الطريق لدينا مفروشةً بالورود، فالطريق كلّها أشواك، ولذلك يجبُ أن نستمرَّ مهما كان الظرف، لأنّ في فترة من الفترات في السبعينات وبداية الثمانينات كنّا مفصولين عن العالم، وكلماتُنا لا تصلُ بسهولة، وحين نعبُرُ الجسرَ لا يمكنُ أن نحملَ قصاصة ورق، فكيف تحملين كتبًا؟ وتُفتّشُ الكتبُ وتذهبُ للتدارس، فكانت الأوضاعُ صعبةً جدًّا ناهيكَ عن الإذلال، فكانوا يُجبرونَنا أن نمشِيَ بلا أحذية على الرمضاء الحارّة في أيّام الحَرّ، ويُفتّشونَ كلّ الأوراق، ولا يوجدُ كاتبٌ فلسطينيٌّ إلّا وعانى من التحقيق والسجن، فهُم يريدون أن يقمعوهُ، فقد يكونُ فدائيًّا ووراءَهُ طاقمٌ من الفدائيّين!
هُم لا يقتنعونَ بالكلمة، وأنا اعتقلوني لأوّلِ مرّةٍ على الجسر عام 1976، وكنتُ قادمةً مِن القاهرة، وكنت انتهيتُ مِن امتحانات الماجستير ومعي كتبي ممّا هبّ ودبّ، ودخلتُ أنتظرُ بعدما سلّمتُهم هُويّتي، وبقيتُ وحدي أنتظرُ وكلّ الوجوهِ الإسرائيليّةِ مِن حولي مُكشّرة وعابسة، وفرَغ الجسرُ مِن الناس، وبعدَ دقائقَ وإذا بعسكريٍّ من اليمين وعسكريٍّ من اليسار، وحوّطني العسكر. وهنا تستغربين طبعًا وكلّ الأمور مُتوقَّعة، ولكنّي أخذتُ الأمورَ بهدوءٍ وضحكتُ قائلةً بطريقةِ الدعابة والنكتة: أتظنّونني أبو عمّار وتريدون أن تأخذوني؟  فجاء أحدُ العسكرِ ووضعَ القيودَ بيدي، وأخذوني مِن الجسر إلى مقاطعةِ أريحا المعسكر، وأبقوني هناك حتّى الليل، ووضعوا عُصبةً على عينيّ وساقوني إلى المسكوبيّة في القدس. وبدأ مشوارُ التحقيقِ وحكاياتٌ طويلةٌ، ويوميًّا على مدار خمسة عشر يومًا، ثمّ مدّدوا ثانيةً وظلّوا يُمدِّدونَ اعتقالي مدّةَ أربعة أشهر، ولكن ما من دليلٍ في إدانتي أو بعلاقةٍ مع خليّةِ فدائيّين، فسألوني: لماذا أنتِ في مصر؟ للمنظّمة الفدائيّة؟ وكانت لديّ قوّةٌ نفسيّةٌ عاليةٌ جدًّا، وكان يُحقّقُ معي يوميًّا محقّقون ثمانية، فكنتُ أستخدمُ اللغةَ الفصحى وأُتقِنُها تمامًا وأقول لهم: أنا لغتي مثل لغة القرآن الكريم، وأنا طالبةٌ أدرس ولا علاقة لي مع أحد. فقالوا لي: أنتِ في المنظّمة التخريبيّة. فقلت لهم: ولكنّهم لا يقبلونني! إذن لماذا أنتِ في مصر؟ أنا أدرس القرآن الكريم. فقام المُحقّق بفتح دُرجِهِ وأخرجَ قرآنًا وطلبَ منّي أن أقرأ في القرآن سورة البقرة، فقرأت وسألني: ماذا درستِ أيضًا؟ درست الأدبَ الجاهليّ. وهل هناك أدبٌ جاهليّ؟ فقلت: قد يكونُ وقد لا يكون، وحتّى إن لم يكن، فإنّ تقليدَ الأدبِ هو صورةٌ مِن الأدب. فقال: معقول. فقلتُ: إذن أنتَ حمّلتَني اتّهامًا مُقلّدًا وليس اتّهامًا حقيقيًّا، لأنّكَ وضعتَ في ذهنكَ أنّني قد أكون من.. وضيّعتَ وقتي وضيّعت جامعتي. فقال: أنتِ وقحة! وهمّ أن يَصفعَني فأوقفَهُ المُحقّقُ الآخر. وتابعوا معي التحقيق، ولمّا فقدوا الأمل أخرجوني من السجن، ومنعوني من السفر، ودفّعوني فوائدَ عاليةً جدّا وكفالة، وطبعًا لا زلتُ أخضعُ للرقابةِ والتفتيشِ والمنْع من السفر!          
من بين مؤلّفاتِكِ "اخترتُ الخطر". ما سِرُّ اختيارِك لهذا العنوان لديوانك؟ وما هو الخطر الذي اختارتهُ حنان عوّاد؟
لو راجعتِ قصائدَ هذا الديوان لوجدتِ معظمَها تتحدّثُ عن الشهادةِ والاعتقالِ والانتماء، وعن أشياءَ مرتبطةٍ بي مِن بعيدٍ ومن قريب، وعن الوطن في تشكيلاتِهِ، فالخطرُ هو الإرادةُ والتصميم، يعني اخترتُ الخطرَ وطريقَ الكفاحِ والنضال، ومعروفٌ أنّكَ إذا سرتَ بها فهي طريق ليست سهلة، وسيواجهُ الإنسانُ ظروفًا صعبةً كثيرةً ومصاعبَ كثيرة عليه أن يتحمّلها، لذلك كان هذا الاختيارُ بالوعي العقليِّ والنفسيّ، لأنّ الطريق التي نسير بها، سواء كانت طريق الكلمة أوطريق النضال والكفاحِ بأشكاله وصُورِهِ، هي طريقٌ صعبة، ولكن لن تُعيقَنا بالسير بها، فلذلك أردتُ أن أُعطيَ إشارةً أيضًا إلى إصرارِ المرأةِ الفلسطينيّةِ على خوْض التجربةِ النضاليّة، بأيّ شكلٍ من الأشكالِ الذي تراهُ مناسبًا، فإحدى القصائد التي تتحدّث عن زاوية الشهيد تقول:    يا حبيبي إنّي ما زلتُ عندَ العهد/ لم أفقدْ زوجًا ولم أخلعْ سوادي. بمعنى؛ أنّي لن أنساكَ وسأبقى مُصمّمةً مهما كان الظرف صعبًا، فهذا هو التنصميمُ والإرادة وليس العبثيّة، فالخطرُ هو رسالةٌ إلى المرأة، إلى الرجّل، إلى المناضل، وهي رسالةٌ نضاليّةٌ ولكن بقالبٍ شِعريّ! 
 ماذا تعني لك الأسماء التالية: حنان عوّاد/ الشّعر/ القدس/ ياسر عرفات؟
حنان عواد تعني لفلسطين وللزملاء الكُتّاب وللشعب الفلسطيني، أمّا أنا وماذا تعني لي ذاتي، فهي قضيّةٌ صعبةٌ جدًّا، ففي كلِّ شخصيّةٍ محورٌ خارجيٌّ ومحورٌ داخليّ في تداخلات، فهل أنا في مرحلةٍ ما؟ أم أنا في كلّ المراحل؟ لذلك أنا أتركُ ماذا أعني للجماهير التي قرأت كتبي، وللناس الذين يَسيرون معي، وللذين يَسيرونَ ضدّي في نفس الوقت!!
الشعر إطلالةٌ روحيّةٌ عميقةٌ مُعمّقةٌ، مربوطةٌ بجذورٍ في أعماقِ كوامنَ أشياءَ كثيرة، وفيها بُعدٌ إلهيٌّ أيضًا، ولا تنسَيْ أنّ الشعرَ يبدأ بالموهبةِ، ثم بتدرّجِ الوعي في النقلةِ النوعيّة والتعمّق في كتابة القصيدة، والشعر هو عالمٌ كاملٌ متكاملٌ كلّيّ، فهو كلٌّ للأبعادِ الإنسانيّةِ المُتعدّدة!
القدس هي نبضُ روحي وأحلامي وطفولتي وشبابي ومَجدي وانتصاراتي وانكساراتي، القدسُ هي القدس التي أعبدُها وأُحبُّها، هي أهلي بشوارعها وأزقّتِها، وهي الناس الذين أُحبُّهم وأحترمُهم، وهي كلّ الأركانِ، وهي العاصمةُ طبعًا لدولة فلسطين الحبيبة!
لقد سألتِني عن حنان عوّاد وعن القدس وعن الشعر، فهذه كلُّها متداخلةٌ مع بعضِها البعض، تتشكّلُ في صياغةِ هذه الشخصيّةِ المُعجِزةِ؛ ياسر عرفات يعني فلسطين، الطفولة الفلسطينيّة، النضال الفلسطينيّ، ياسر عرفات فرحُ دم الشهيد، والشمعة التي يَحملها المعتقلون وراء القضبان. ياسر عرفات هو صورة المرأة الفلسطينيّة في الحقل والمنزل وأم الشهيد التي تزغرد حينما يُضحّي ابنُها في سبيل وطنِه. ياسر عرفات هو الموقفُ السياسيّ والزعيم الامميّ. ياسر عرفات هو الإنسانُ، وهذه كلّها التعابير، وهناك عواملُ كثيرةٌ التفاصيل، إذا دخلنا في غوْرها، لن تتّسعَها سِجلّاتُ التاريخ!
كنتِ على مقربة من المرأة وعلى صلة وثيقة بقضاياها، من خلال ترؤسك لجمعية المرأة للسلام والمساواة فرع فلسطين. ماهي الأمور التي نجحت بها  المرأة الفلسطينية، والأمور التي فشلت في الوصول اليها؟ والى أي حد ساهمت التركيبة المجتمعية في نجاح المرأة أو حصارها، ضمن حدود معينة؟
أنا لم أكن على مقربةٍ فقط، فأنا جزءٌ مِن الحركةِ النسائيّةِ الفلسطينيّةِ وحتّى الإنسانيّة الفلسطينيّة، والحقيقة أنّ لي رأيًا خاصًّا بموضوع المرأةِ بشكلٍ عامّ، لأنّي أنظرُ للمرأةِ أوّلًا كإنسانٍ مُوازيةً ومساويةً، إنسانٍ بكاملِ الآهليّةِ والقدرات، لأجل ذلك، دائمًا حتّى تعابير الرجل والمرأة لا أُحبُّ أن أستعملَها، لأنّ الثورةَ الفلسطينيّة لمّا انطلقت، أعطت للمرأةِ مساحةً واسعةً، وأوّل ما تأسّسَ الاتّحادُ العامّ للمرأةِ الفلسطينيّة، كان هدفُهُ تحريرَ الأرض والوطن، يعني على قدْر المساواة مع الفكر الوطنيّ الفلسطينيّ الشامل، سواءً كان رجلًا أو امرأة.
هذا لا يعني أن ننسى أنّ هناك ظروفًا مجتمعيّة، قد أثّرت إلى حدٍّ ما على مسيرة المرأةِ بشكلٍ عامٍّ أو بشكلٍ خاصّ. أنا أرى أنّ المرأةَ بالوعي، وهو الطريقُ الأوّلُ للحقّ، سواء على الصعيد السياسيّ أو الشخصيّ، ورؤيتها وثقافتها أيضًا، والمهامّ التي تقومُ بها، يعني أن تخرجَ مِن الأنماط النمطيّة والشعاريّة التي يَسوقُها المنبرُ، فموضوع المرأةِ بالنسبة لنا يختلفُ تمامًا عن الطروحاتِ المُستورَدة من الغرب، يعني أنا ككاتبة لمّا بدأتُ أكتبُ، ومثلما قلتُ لكِ سابقًا، إنّي بدأتُ أكتبُ بالقضيّة السياسية، فأحدُ المُحرّرينَ قال: ماذا تريدينَ مِن هذه الغلبة والمواضيع؟ اُكتبي عن قضايا المرأة والجَمال والحبّ. فقلت: هذا يتناقضُ مع الواقع السياسيّ.
فأنا أقولُ بشكلٍ عامّ، أنّ المرأةَ الكاتبة وقعت في مأزقٍ سيكولوجيّ، ما سببُه؟ طبعًا أنا درستُ هذا الموضوع عندما عملت كتابي باللغة الإنجليزيّة عن غادة السمّان، أسميتُهُ "قضايا عربيّة في أدب المرأة"، وقبل أن أناقشَ موضوع غادة السمّان، عملت قراءة للكتابات التي كتبتها المرأة في ذلك الوقت، وبما فيها ميّ زيادة أيضًا، فالعديدُ مِن كتابات المرأةِ في ذلك الوقت، بعضُه عالجت الكاتباتُ قضايا المرأة على استحياءٍ وتماشِيًا مع الوضع المجتمعيّ، وبعض الكاتبات ركّزن على القضيّة السيكولوجيّة والقضيّة الإنسانيّة، والتي تبدأ بعلاقة حبٍّ وتنتهي بفشل، وإحساسُ الكاتبة بأنّ هذه العلاقة غيرُ متكافئة، فأن أحبّت المرأة وعايشت الرجل وتعايشت معه وأدّت القضيّة إلى فشل، انعكسَ هذا الموضوعُ في كتاباتٍ عديدةٍ جدًّا على البُعد السيكولوجيّ حتّى للكاتبة، فتلاحظين أنّها تنشرُ فكرة العذابِ والتعبِ والإحساسِ بالظلمِ والنقمة، ولهذا سمّوْهُ النقّادُ بالأدب النسائيّ أو أدب النسوة، وأجْرَوْا دراساتٍ في الوقت الذي كنت أدرس فيه، مثلًا غالي شكري عندما درس عن غادة السمّان قالَ إنّها ارتقتْ في كتابتِها، وخرجَت عن الإطارِ العامّ لكتاباتِ المرأة، فما أن تقرأ لواحدة منهنّ كأنّكَ تقرأ لجميعهنّ، فالمشكلة هي أنّ الألمَ شخصيّ وتحوّلَ إلى ألمٍ عامّ، ففي المنظورِ الإنسانيّ والسياسيّ صحيح أنّ هناك بُعدٌ مجتمعيّ مُميِّز، لكن ليس كلُّ الرجالِ سيّئين، ولا كلّ النساء مظلومات، فالتعميمُ قاتلٌ غيرُ منطقيّ.
ثانيًا، إنّ طرْحَ قضيّة الإنسان فالمرأة إنسانٌ كاملُ الآهليّة، فصحيحٌ أنّ ظلمًا يقعُ هناك، فأريد أن أربطَها بقضايا علميّةٍ وثقافيّةٍ، فوضعُ المرأة في أيّ مجتمعٍ مِن المجتمعات يرتبطُ بالبُعد الوطنيّ والبُعد الدينيّ، ومِن خلال البُعد الوطنيّ والدينيّ تنتجُ ثقافةٌ مجتمعيّةٌ، ففي فلسطين نتجت ثقافةٌ مجتمعيّةٌ؛ الحلالُ والحرام، الممنوع والمسموح، وهذا جيّد للمرأة وهذا سيّء، فهل تتعلّم المرأة أو لا، وهل تعمل أم لا، فهذا كلّه نتجَ مِن مفاهيمَ دينيّة سواء مسيحيّة أم إسلاميّة، وتطوّرَ المفهومُ وتواصلَ إلى أن أصبحَ حقيقةً مجتمعيّة، فقوانينُ المجتمع تُستقى من الثقافة الدينيّة، فلمّا المرأة عكَست قضيّتها، ما تحدّثت بعُمق عن القضيّة، إنّما أخذت جانبًا عانى من الظلم، وجعلت منه القضيّة الكبرى، فلم تربط  قضيّة المرأة بالبُعد التاريخيّ والاجتماعيّ والدينيّ والوطنيّ والثقافيّ، فمثلًا ليلى البعلبكي ومجموعة كبيرة من الكاتبات كتبن عن علاقات الحبّ والعلاقات الجنسيّة وبكامل المفاهيم المتوارثة، وانتهت بالفشل. صحيحٌ أنّ هذه حقيقةٌ موجودةٌ لا تُنكَر، ولكن نحنُ نُقدّمُ للمتلقّي رؤيةً ليست مبنيّةً على مرض نفسيّ، فحينَ يكونُ هناك إرهاقٌ وتعبٌ نفسيّ فلا تعطي الكاتبة الرؤيةَ بشكلها الصحيح، فأنا قرأت 150 كتابًا تقريبًا، وكلّها تسير في هذه الدائرة، وأنا شخصيّا تعقّدت من الوضع، فالكلّ مظلومٌ ويبكي وخائنٌ ومُخَوّن، ولا أحبُّ أن أرى هذه الصور.
أنا ككاتبةٍ عليّ أن أشرح الحالة، ولكن عليّ أن أعطي رؤيةً فيها حياة وأمل وموازاة وفهمًا عميقًا، أنا مسؤولة عن كلماتي وعن الناس قرّائي، ويجبُ أن لا يكون جهلٌ في الآخر، فكيف تُبنى العلاقات المتكافئة؟ بفهم الإنسان المتبادل للآخر، وهذا الفهمُ لا يأتي من نقطة واحدة، فهناك عملٌ تكامليٌّ وشموليٌّ وفكريٌّ وثقافيٌّ وإنسانيّ، هكذا يجبُ أن يُفهم، فالطرحُ الفكريّ أيضًا يجبُ أن يُعطي المتلقّي شيئًا جديدًا ورؤيةً جديدة، صحيحٌ أنّ قاسم أمين حكى عن تحرير المرأة، فما هو التحرير؟ ففي تلك الفترة من الخمسينات والستينات تأثّرت الكاتبات بالأدب الوجوديّ وفلسفة الوجود، وهناكَ تيّاراتٌ فكريّةٌ عديدة، تيّار الفنّ للفنّ بدون التزام، والتيّار الوجوديّ، والتيّار الاشتراكيّ، ولكن علاقة المرأة بالزمان والمكان والحدَث بالرؤية، وعلاقة المرأة بالمسؤوليّة وعلاقاتٍ أخرى يجبُ ان تبرزَ بشخصيّتها، فكيفَ صنعَ غسّان كنفاني صورة المرأة، صحيحٌ أنّها قد لا تكون موجودةً على أرض الواقع لكنّه صنعها، وحين أنتِ تصنعين صورة جميلة يُحتذى بها، فهي ليست شخصيّةً اسطوريّة ولا خياليّة إنّما واقعيّة، وحتّى لو لم تكن واقعيّة وهو أوجدَها بخياله، إذن هذا يعني أنّه وضعَ طريقًا جميلًا يُحتذى به للإنسان، فهنا تكمن قدرة الكاتب في الخلق الجديد وبلورة وميض الفكرة. صحيحٌ أنّه قد يتجاوزُ الواقعَ، ويُعطي تصوّرًا جماليًّا لواقعٍ أقلّ جمالًا، فهو لا يتناسى الواقع وإنّما يَعرضُ مشكلةَ الواقع، ويُعطي إضاءاتٍ أخرى تُحيي كينونةَ الإنسان.
هي المرأة أيضًا ساهمت في هذا الموضوع، فلمّا تُصوّر المرأة علاقةً مع رجل وتنهيها، فهي أيضًا قزّمت ذاتَها بموضوعٍ صغير، وأنا كثيرًا ما كان لي نقدٌ لأدب المرأة في تلك الفترة، لأنّه لم يُعطِني فكرةً أو رؤية أو إبداعًا أو إشفاءً، فأنتِ انطلقي على أنّكِ كاملة الآهليّة وإنسانة كفؤ، تتوازينَ مع الرجل قدرةً وتتعاملين معه، وأيضًا هذه المساواة تبدأ فكرة أنتِ آمني بها بداخلِك، فلا تعملي منكِ صورةً جماليّةً لغلاف، فكثيرًا ما تُستغلّ المرأةُ كصورةٍ جماليّةٍ في العروض والتعرّي!
لا، فأنتِ امرأةٌ لها قدرةٌ، وربّنا سبحانه وتعالى أعطاها قِيمًا واعتبارًا، ولذلك يجب أن نكون نحن بحاجةٍ إلى مسؤوليّة توكَلُ إلينا، وبالتالي كثيرٌ من الأدب وكتب المرأة لم يكن بالمستوى االمطلوب، يعني بمستوى تستطيعين أن تقرئي لكاتبة فيه البُعد الفنّيّ والإبداعيّ، وبعيدًا عن الصراع السيكولوجيّ أحاديّ الجانب، ومن منظورٍ واحدٍ في الحياة أو بالعلاقة النسائيّة، فأنا لمّا بدأت حياتي كان عندي ثقة عالية جدّا بالنفس، ولذلك لم أجد فوارقَ، ولم تكن عندي عقدة رجل أو امرأة، فلذلك تجدين في الكتابات مشاعر الاكتئاب والسوداويّة والتظلّم والحزن والنقمة، والرسالة هي نقلٌ وتشريبٌ للمتلقّي، وأيضًا الافتقار إلى البُعد الفنّيّ، فمثلًا ليلى البعلبكي اللبنانيّة في "سفينة حنان إلى القمر"، تتحدّث عن القضيّة الجنسيّة وبوصف، وصودر الكتاب ثمّ أعيد ثمّ اختفت كتابات البعلبلكي، وحاولت أن أجدَ هدفًا في هذا الكتاب أو نتيجة، فلا بأس من التوصيف والتصوير، فنجيب محفوظ وإحسان عبد القدّوس ونزار قباني صوّروا هذه القضايا والمرأة ونجحوا، لكنّ المرأة لم تنجح في طرح قضيّة المرأة هذا أوّلًا، وثانيًا وناهيك عن المرأة الكاتبة، نعود إلى المراة في الميدان والجمعيّات النسويّة، ففي أكثر من محفل تجدين المرأة ضدّ المرأة، فهي ترفعُ الشعارَ وتدفنه في نفس الوقت بسبب الغيرة والحسد، ولكن إن كنتُ أنا رئيسة مؤسّسةٍ وأتحدّث عن المرأة، يجب أن أخوضَ منظّمة لها علاقةٌ بحقوق المرأة، وعليّ أن أقبلَ الأخرى وأتركَ النزعاتِ الإنسانيةَ الصغيرة من أجل قضيّة كبرى!
وكذلك صياغة القضايا، فقد أصبحت قضيّة المرأة شعارًا بصراحة، فبالنسبة لي منظّمة المرأة هي قضيّةٌ سياسيّةٌ ووطنيّة، وليست قضيّةُ المرأة في جدول المرأة، لأنّ فيها أعضاء رجال أيضًا، فلاحظي منذ الانتفاضة حتّى الآن بدأت الوفود الأوروبيّة تأتي إلينا، فبدؤوا بلقاءاتٍ حول المرأةِ العربيّةِ المضطهَدةِ، وكثيرٌ من النساء بكلّ أسفٍ أعطيْن هذه الصورة، لأنّ الأوروبيّ هكذا يريد أن يرى كي يدعم، فمثلًا جاءت إليّ أوروبيّة تحملُ فكرةً عن المسلمين المتديّنين الذين يَضطهدون المرأة كي تحاورَني، فرفضت إجراءَ اللقاء لأنّها تحملُ فكرةً مُسبقةً تريدُ تأكيدَها وتثبيتَها منّي، فعادت تبكي ثانية لتقول: إنّها أخذت هذا الانطباعَ من خلال رؤساء المؤسّسات، واعتذرت وأكملت الحوار عن الدين والحجاب والمرأة بشموليّة، ولكنّ الحوارَ لم يُنشَر، لأنّهم يريدون الصورة السوداويّة البكّاءة من أجل أن تدعمك مؤسّسة؟
لمَ البكاء؟ صحيحٌ أنّ هناك مشكلة، فأيّ مجتمع في العالم لا يوجد عنده تمييز وعنف ضدّ المرأة؟ حتّى المجتمع الأوروبّي والأميريكي؟ ثمّ إنّ هذه التعديلات هي ليست من واقعنا المجتمعيّ، فمؤسّسات العنف ضدّ المرأة ومؤسّسات أخرى عديدة، وكلّها منقولةٌ ومُستورَدة، فلدينا المرأة بشكلٍ عامٍّ مُعزّزة ومُكرّمة ومحترمة. صحيحٌ أنّ هناك بعضُ العائلات وبعض الظروف المقيّدة، ولكن المرأة لها احترامها وحضورها، فاليوم التباكي على هذا الموضوع يفقد قيمة المرأة ويفقد قضيّة المرأة، وأصلًا ليس هناك موضوع اسمه قضيّة المرأة، ولكن هناك قضيّة مجتمعيّة وقضيّةُ إنسان، فلاحظي في التلفاز أو الجمعيّات، يضعون شعاراتٍ كبيرة عن قضيّة المرأة ووضع المرأة وإلخ من الشعارات، فكيف أكون امرأة ناجحة، إذا كان زوجي أو أبي أو أخي غير ناجح؟ أو إذا كان أبي لم يرقَ إلى المستوى البعيد الذي أعطاني إيّاه، فهنا القضيّة إذا أخذناها أحاديّة الجانب لن تنجح، لأنّها تُشقّقُ الرؤية، وناهيك عن أفكارٍ مُستورَدة كثيرة لا تتناسب مع واقعنا المجتمعيّ، فأنا دائمًا أقول: إلى جانب كلّ امرأة عظيمة يقف رجلٌ عظيم، وإلى جانب كلّ رجل عظيم تقف امرأة عظيمة، بالتالي يجب أن نُمهّدَ للرؤى وللمعرفة!
وأنا مطمئنّة كثيرًا، ففي بلدنا نسبة التعليم عالية، والإبداع عالٍ، والمشاركة السياسيّة عالية، لكن نحتاج إلى تعمّق في طرح المرأة كإنسان متكافئة وليست متناحرة، ففي الاجتماعات تجدينهنّ يسبّون على بعضهم، فلماذا هذه السوقيّة في التعامل مع موضوع المرأة؟
أنا أقول إنّ موضوع المرأة هو موضوع كلّ إنسان وليس كجزء، يعني كما المرأة كما الرجل، وهذا الجانب أعكسه في اجتماعاتي وفي كتاباتي عن المرأة، فكتبت عن "المرأة والمساء الثوريّ"، وكيف تكون المرأة قائدة ورائدة في الثورة، إذا أدركت بعُمق وكانت على قدر المسؤوليّة، فإن كانت كاتبة على مستوى الإبداع والفنّ، وعلى مستوى الرسالة التي تحملها للمجتمع، وإذا كانت في أيّ موقع، يجبُ أن لا تكون سلعة للإغواء أو صورة للتسويق، بل يكون لها حضورها على الأرض، وتحمل كفاءاتها ومواقفها، وبالتالي لا تحتاج إلى الصراخ، فهذه الصفات هي التي تسطع على أرض خصبة، وبدون هذه العُقد التاريخيّة التي أخذناها، وطبعا المطالبة بالحقّ لا تأتي بالصراخ ولا بالعويل، وإنّما بالتفاهم والفهم وتعميق الفهم وإثبات الواقع، وإلّا ستكون قضيّة شعاريّة هدفها إرضاء بعض المؤسّسات العالميّة، وبعض مَن يَطرح هذه الأفكار كي تكون.
طبعًا هناك إبداعاتٌ رائعة جدّا للمرأة التي بدأت بتطوير الرؤى وتطوير الثقافة أيضًا، ولا ننسى أنّ المرأة الفلسطينيّة حاملة الشهادة ليست أهمّ وأعلى من المرأة في البيت أو في الحقل، ولكلٍّ منها دوْرها وعلينا احترام الأدوار، كأمّ الشهيد وزوجة الشهيد وأم المعتقل، فهؤلاء النساء الصابرات اللواتي يَحملن صوَر أولادهنّ وأزواجهنّ، ويقطعن المسافات إلى عسقلان وبئر السبع لرؤيتهم في السجون، فهذا كنز وهذه هي القضيّة التي تُطرح في قضيّة المرأة، لتعكس الإيمان والرؤية والقدرة على العطاء والكلام المرتّب وتضحيتها، ولا يمكنني أن أصنّف المرأة الفلسطينيّة المناضلة تحت هذه التصنيفات الدوليّة، لأنّه لها تصنيف خاصّ، فخذي امرأة مُضحّية عانت وتعذّبت وأبدعت في كلّ المجالات، في السياسة والبيت وفي كلّ مواقعها، وهي التي أنجبت العظماء وربّت الأبطال والشهداء.
رسالتي للمرأة: أكون سعيدةً جدًّا إذا دخلتُ إلى أيّ موقع أو إلى أيّ مكان بغضّ النظر عمّا هو، وكانت هناك سيّدة تُتقن عملها، وأُكِنّ لها كلّ احترام، ويُسعدني الإنسان الذي يُعطي للوظيفة ولا تعطيه اللقب، أي هو الذي يمنح المعنى للقب الوظيفة. والحقيقة أنّ هناك كفاءاتٍ كثيرةً وأعتزّ بها كثيرًا، عندما أجد امرأة أبدعت ونجحت، سواء كاتبة، زوجة، أم، واكون سعيدة وفخورة جدّا بها إذا أدّت رسالتها، فأنا اليوم لا أخاف على المرأة، لأنّ الفرص أصبحت عندها كبيرة، وأخذت مناصبَ عالية جدّا، وأبو عمّار رحمه الله شجّع المرأة كثيرا، فهذه الصور التاريخيّة كنساء علينا أن نحافظ عليها، لا بعصبة ولا بتشنّج نفسيّ ولا بوجوم ويأس، وإنّما بإرادة صادقة بمفهوم الكفاءة وبمفهوم السلطة بالمسؤوليّة، بمعنى؛ كي آخذ موقعي يجب أن أكون مسؤولًا وكفؤًا في تادية الرسالة، وإلّا سأكون شعارًا أو صورة نمطيّةً توضع لأهدافٍ أخرى. 
انتهى

CONVERSATION

0 comments: