غاندي يواجه خصمه اللدود تشرتشل!/ د. عبدالله المدني

التصالح مع النفس والاعتراف بالخطأ، ولو بعد حين، هما من سمات الديمقراطيات الغربية العريقة. وهذه القيمة العظيمة، التي جسدتها بريطانيا مؤخرا بإقامة تمثال داخل ساحة برلمانها لأحد أبرز خصومها التاريخيين، بل الرجل الذي دق المسمار الأول في نعش ما كان يعرف بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ونجح في إنتزاع الدرة الأكثر لمعانا وتوهجا من التاج البريطاني، هي القيمة التي أحوج ما يكون إليه اليوم هم العرب، وليس سواهم، بعدما عمّتْ النوازع الشريرة ديارهم وتمكنتْ آفة الحقد والكراهية والضغينة والانتقام من نفوسهم، وسيطرتْ لغة البارود والمدفع على سماواتهم. 
ففي يوم السبت (14/3/2015) الذي صادف الذكرى المئوية لعودة الزعيم الهندي المهاتما غاندي إلى بلاده من جنوب أفريقيا لبدء كفاحه الفريد ضد بريطانيا من أجل الحرية والاستقلال، قام رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون (برفقة وزير المالية الهندي "أرون جايتلي" ونجم نجوم السينما الهندية "أميتاب باتشان" وحفيد غاندي "غوبال كريشنا غاندي") بازاحة الستار عن تمثال لغاندي وصل ارتفاعه الى 2.7 مترا، وبلغت تكاليف صناعته نحو مليون جنيه استرليني، وصممه المثال البريطاني فيليب جاكسون ــ سبق أن صمم تمثالا لملكة بريطانيا الأم ــ من وحي صورة غاندي وهو على درج مقر رئاسة الحكومة البريطانية (داوننيغ ستريت) في عام 1931 أثناء الزيارة التي التقى خلالها الملك جورج الخامس، حيث جاء غاندي نصف عار متكئاً على عصاه وحين سُئل اذا كان يشعر بأن ملابسه غير كافية أجاب: "الملك يرتدي ثياباً تكفي كلينا".
وفي هذه المناسبة ألقى كاميرون كلمة بليغة حملتْ الكثير من المعاني والدلالات التي تصلح لأنْ تكون إلهاما لنا في حاضرنا البائس المشبع بلغة الموت. فقد قال أنّ نهج اللاعنف الذى تبناه غاندي سوف يتردد صداه إلى الأبد كإرث إيجابي ليس فقط بالنسبة لبريطانيا والهند، ولكن للعالم ككل، ثم وصف غاندي بالرجل صاحب البصيرة العميقة، وأشاد بالهنود الذين استقروا في بريطانيا، قائلاً: "أُفكر بمليون ونصف مليون هندي بذلوا جهدا كبيراً حتى تصبح بريطانيا على ما هي عليه الآن. وأفكر أيضا في كيفية انتهاجنا لرؤية غاندي حول تعايش العقائد المختلفة في انسجام".
لكن لندع كل هذا جانبا ونتوقف أمام أمر آخر شدّ إنتباه الكثيرين هو المكان الذي نـُصب فيه تمثال الزعيم الهندي بالقرب من برج ساعة "بيغ بين". ففي هذا المكان الذي يضم تماثيل لشخصيات تاريخية شهيرة مثل نيلسون مانديلا وابراهام لينكولن، تم وضع التمثال البرونزي لغاندي عمدا إلى جوار تمثال السير ونستون تشرتشل أشهر رؤساء حكومات بريطانيا على الإطلاق، وكأنما أريد للزائر أو المشاهد أنْ يتأمل تمثالين لعدوين لدودين مختلفين في كل شيء (وإنْ تشابها في أمر واحد هو تحقيق كل منهما النصر ضد عدوه بأسلوبه الخاص): غاندي المحامي الهندوسي المتدين الزاهد ذو الجسم النحيل والملابس البسيطة وصاحب العصاة والمغزل اليدوي والشاة وحملات الاحتجاجات السلمية والدعوة إلى الإضراب في مواجهة جبروت المستعمر، والرجل الذي علم أمته أنّ النصر آت لا محالة بالصفح والتسامح والمغفرة، وتشرتشل السياسي والضابط والكاتب والمؤرخ والفنان، سليل أسرة سبنسر الاستقراطية، صاحب الجثة الضخمة والسيجار الفاخر والملابس الباذخة والانفة والغطرسة الانجليزية المعروفة والخطط العسكرية والسياسية التي حقق بها النصر لبلاده على ألمانيا النازية وحلفائها.
وهكذا، وبفضل انتهاج سياسة نسيان الماضي وهجر خطب الكراهية والعنصرية والدمار والمظلومية الزائفة والشعارات الكاذبة كسبيل نحو مستقبل يعمه الود والسلام والتعاون، نجد غاندي الذي قاد أكبر ثورة ضد الإستعمار في التاريخ بأقل التكاليف، وسحر العالم وكسب احترامه بتواضعه وزهده وعفوه الدائم عن خصومه، والذي قال ذات يوم "إني أوثر الانتظار أجيالا وأجيالا، على أن ألتمس حرية شعبي بالاكاذيب"، يواجه في ساحة البرلمان البريطاني ــ بعد سبع عقود من إغتياله على يد شاب موتورــ خصمه تشرتشل الذي عارض عصيانه السلمي في ثلاثينات القرن الماضي، وتنبأ خطأ بأنه سيموت جوعا إنْ أضرب عن الطعام، ورفض أي عدول عن فكرة تبعية الهند للسيادة البريطانية بل وصرح تعليقا على وصوله إلى لندن للإشتراك في مؤتمر الطاولة المستديرة في عام 1931 بأنه "لمن المقلق والباعث على الاشمئزاز أنْ نرى الفقير المحرض على الفتنة يأتينا شبه عار مع شاة أكثر نحولا منه ويصعد الدرج إلى قصر نائب الملك للتشاور والتباحث على قدم المساواة مع ممثل إمبراطورية الملك. بل أن تشرتشل تمنى الموت لغاندي بطريقة بشعة. إذ جاء في مذكراته أنه تمنى أنْ يــُسحق غاندي تحت أقدام فيل هندي ضخم عقابا له على تصديه للوجود البريطاني في شبه القارة الهندية.
ونختتم بما كتبه الزميل علي حسين من العراق ــ ومن غير العراق ينزف جرحا غائرا ويعيش مأساة الفتنة والدمار اليومي ــ حول هذا الحدث، إذ قال: " تتوالد وتتكاثر الأحقاد والضغائن في المناخات الملوّثة بوباء الطائفية والاستبداد. راجعوا معي حكاية المهاتما غاندي، فستجدون كيف تـُبنى الأمم حين يهجر الساسة الخطب الطائفية والانتهازية وهواية الكذب والزعيق المتواصل وترويض الناس بالدجل والشعارات".

د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: مارس 2015 
البريد الالكتروني: Elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: