الخط العربي .. بوابة الياباني إلى العربية/ د. عبدالله المدني

يهدف تدريس اللغات الأجنبية في اليابان إلى توسيع مدارك الطالب للعالم من حوله وتوفير فهم أفضل لديه لثقافات وحضارات المجتمعات والشعوب الأخرى. ولما كان تعامل اليابان مع الدول الناطقة بالانجليزية هو الأوسع والأقدم تاريخيا (بدأت مع بدايات القرن 17)، ولما كانت الانجليزية هي لغة العلم الأكثر حيوية وانتشارا في العالم، فإن تعليمها في اليابان صار منذ عدة سنوات خلت إجباريا للتلاميذ من سن 10 إلى 14 عاما. كما قامت وزارة التعليم اليابانية، التي تبلغ ميزانيتها 71 مليار دولار (الاعلى في العالم)، بتقديم برامج خاصة مكثفة في الانجليزية في مدارس معينة. لكن على الرغم من هذه الخطوات فإن الياباني يجد صعوبة في اتقان الانجليزية ونطقها بطريقة صحيحة. والسبب هو سمة الخجل التي يتصف بها الفرد الياباني والقلق الذي يساوره من احتمالات الفشل في النطق السليم. حيث الفشل في الثقافة اليابانية تعادل إرتكاب جريمة نكراء.

غير أن حكاية اليابانيين مع اللغة العربية تبدو مختلفة إلى حد ما. فعشاقها اليوم في تزايد ليس فقط لأن من يتقنها يستطيع الحصول على وظيفة في الخارجية اليابانية، وليس فقط لأن الإلمام بها يجنب الوقوع في سؤ تقدير التغيرات التي تحدث في الشرق الأوسط من تلك التي لها انعكاسات على تجارة اليابان وحاجتها للنفط، وإنما أيضا بسبب جماليات الخط العربي التي تجذب هذا الشعب العاشق للفنون بصفة عامة ولا سيما الفنون التشكليلية. حيث لوحظت في بعض معارض الخط العالمية ظاهرة إنشغال الخطاطين اليابانيين بتحويل الآيات القرآنية إلى أشكال هندسية جذابة مع إخضاعها إلى ألوان تشع نورا وبهجة.

وهناك اليوم أسماء يابانية دخلت عوالم اللغة العربية وتعلقت بها من بوابة الخط العربي. غير أنّ أبرزها هو ياباني يدعى "فؤاد كوئيتشي هوندا" المولود في طوكيو في عام 1946 والمتخرج من قسم اللغة العربية في جامعة طوكيو للغات الأجنبية. والسيد هوندا، الذي يعمل الآن أستاذا في كلية العلاقات الدولية بجامعة دايتوبونكا ويترأس الجمعية اليابانية للخط العربي، تعلم الخط العربي على أيدي خطاطين عرب أثناء تنقلاته في المملكة العربية السعودية واليمن ولبنان وليبيا وعمله فيها كمترجم ومنسِّق إداري لمشاريع المسح الجغرافي ورسم الخرائط. ولعل من أهم أعمال هوندا التي لفتت الأنظار، وأكدت موهبته الفذة لوحة تحتوي على آية من سورة الحجرات هي قوله تعالى: (ياأيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). وفي هذا المقام لايمكن أن ننسى يابانيين آخرين من أمثال: "يوشدا ساجنجي" الذي يـُعتبر أول من بحث في الخط العربي واهتم بدراسته ووضع عنه المؤلفات، بُعيد سفره إلى القاهرة في عام 1970 ومكوثه فيها لمدة عامين وتعرفه فيها على أنماط الخط العربي وأشهر روادها، والمستعرب " نوبو أيكي نوتاهارا" صاحب كتاب "العرب: وجهة نظر يابانية" الذي أمضى أربعين عاما من عمره في مصر وحضرموت وبادية الشام ولبنان والمغرب بغية إتقان العربية والإطلاع على ثقافتها وآدابها،  و"أوسامو إيكيلدا" الذي قام بترجمة معاني القرآن الكريم، وترجمة بعض الأعمال الأدبية لطه حسين ونجيب محفوظ، فأختير عضوًا مراسلاً  في مجمع اللغة العربية بالقاهر، علما بأنه درس في جامعة القاهرة وعمل بها وأسس ضمن كلية آدابها قسما للغة اليابانية، و"إيموري كا سوكي" الذي ألف عددا كبيرا من كتب ومعاجم العربية، و"كواساكي تاروا" الذي ألف مدخلا إلى اللغة العربية، وكتب عن الأدب العربي القديم والحديث وخصائصهما، وعن أبي العتاهية والمعري وميخائيل نعيمة. 

و يعود تدريس اللغة العربية في المؤسسات التعليمية اليابانية ــ طبقا لما قاله كوميكو كوندو الأستاذ في جامعة أوساكا في محاضرة له في عام 2012 ــ إلى عام 1925 حينما بدأ ظهورها في معهد أوساكا للدراسات الأجنبية كلغة ثانية تدرّس للطلبة المسلمين في أقسام اللغة الهندية ولغة الملايو، فكان ذلك نواة جهد سيتنامى مع مرور الزمن وعبور اليابان للمنعطفات الصعبة في تاريخها مثل الأزمة النفطية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وأزمة صعود أسعار الإمدادات النفطية في السبعينات. ومما أخبرنا به الدكتور كوندو في محاضرته سالفة الذكر أنه على أثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 تضاعف عدد المؤسسات المعنية بتدريس العربية في اليابان من قرابة 24  إلى 47 مؤسسة خلال بضع سنوات. 

واليوم هناك خمس جامعات يابانية عريقة تهتم بتدريس العربية هي جامعات طوكيو، وهيروشيما، ودايتوبونكا، وجامعتي أوساكا جايداي وأوساكا للدراسات الأجنبية اللتين اندمجتا لتشكيل معهد أوساكا للدراسات الأجنبية، إضافة إلى عشرة معاهد كبرى أهمها المعهد العربي الاسلامي في طوكيو الذي تأسس في عام 1982 بجهود سعودية. ويهدف هذا المعهد إلى بناء جسر للحوار الحضاري العربي ــ الياباني، وتعزيز موقع العربية في اليابان وتخفيف الصعوبات التي تواجه المتلقي الياباني (مثل الصعوبات النحوية والمعجمية والصرفية، وصعوبات التمرن على التخاطب لعدم وجود فرص التدريب) وإقامة المسابقات بين عشاق العربية من اليابانيين في مجالات الخطابة والشعر والخط والإلقاء والترجمة، وخدمة أبناء الجاليات العربية الاسلامية في اليابان.

د. عبدالله المدني
* محاضر وباحث أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يناير 2015 
البريد الالكتروني:Elmadani@batelco.com.bh 

CONVERSATION

0 comments: