الربيع العربي : نعمة أم نقمة؟/ محمود شباط

في العقدين الأخيرين من القرن الماضي عصفت رياح التغيير في العديد من الدول المحكومة من قبل الفرد-الحاكم أو الحزب-الحاكم، والتي كانت تقدم نفسها لشعوبها ولوسائل الإعلام على أنها تستمد شرعيتها من الشعب، وتعمل من أجل الشعب، وتخضع لمساءلة الشعب، أي أنها ديمقراطية مكتملة المواصفات كالديمقراطيات العريقة.
عواصف وهزات التبدل تلك اجتاحت أنظمة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية واستبدلتها بأنظمة أخرى، ولكن ارتدادات الهزات عجزت، أم هي أُعْجِزَت، عن الوصول إلى حدود عالمنا العربي في حينه، وصلتنا نسائمها فقط، ضعيفة واهية، فتوهم البعض أنَّ أسباب حصانته هو سحره وقوته وحب شعبه له، ونام على ما افترضه صوف نعاجه إلى أن قدحت شرارة الربيع العربي في تونس كومضة برق في يوم صحو صاف، ثم تلتها مصر وليبيا واليمن ... وأخيراً سوريا.
بعد سقوط حجر "الربيع العربي" في برك كانت تبدو جميلة المنظر متلألئة المياه متجانسة طفا على سطحها العَكِرِ تنوعٌ محيِّر مقلق. المؤيدون لـ "الربيع" يرضيهم إنهاء دور الحاكم-الفرد كخطوة أولى،  بينما المناهضون يدعمون  بقاء الحاكم-الفرد تحت مسوغات الاستقرار والسيادة ورفض التدخل الأجنبي وفزاعات المذهبية والتطرف، ومنهم من يعلم بأن ذلك "الحمْل الكاذب" الذي أسموه استقراراً وسيادة كان يخبىء في جوفه المريض حمم براكين تحتقن وتكبر كتلتها كل يوم، وترتفع درجة حرارتها كل يوم، وبأنه سوف يأتي الوقت الذي ستلفظ فيه لظى لهيبها.
قبل التغيرات المشار إليها آنفاً مر العديد من الأمم بتغيرات في حقب تاريخية قديمة ومتباعدة، واجهت تلك الشعوب عراقيل وموانع وحواجز، وسالت بسببها أنهر دم، ولكنها كانت دائماً تنتهي بخطوة إلى الأمام، بدرجة أخرى على سلم الرقي والحرية وقيمة الإنسان. استغرقت ردحاً من الزمن ً؛ عقوداً و أجيالاً وقروناً أحياناً، ولكنها فرضت نفسها في النهايةً لأن سنَّة تطور البشرية استوجبتها كون الجمود هو الوجه الآخر الموت.
لا ندري حقاً ما هي التسمية التي أطلقها اليونان على شمعة الديمقراطية التي أضاءها "دراكو" حين سَنَّ أول قانون مكتوب في اليونان يحرم القضاة من تفسير القوانين بما يتلاءم مع مصالح شريحتهم الاجتماعية.  كانت تلك الخطوة ثورية وتقدمية فعلية يومها لأن جميع القضاة كانوا من طبقة النبلاء. بدأت تلك الشموع "الربيعية" في العام 621 ق.م. وانتهت بعد موت "بيريكلس" عام 429 ق.م ، و خضوع الأثينيين لإسبارطة.
قضى سوء حظ البشرية أن تروح الديمقراطية بعدها في سبات طويل نسبياً إلى أن أجبر نبلاء بريطانيا الملك جون على توقيع الوثيقة العظمى، أو ما يعرف في كتب التاريخ باسم (MAGNA CARTA) في العام 1215 . حيث تعتبر تلك الوثيقة ، وبحق، بأنها حجر الزاوية ، أو المدماك الأول في صرح الديموقراطية المتكىء على الأساس الإغريقي لدراكو وسولومون وغيرهما،  وعلى ذلك المدماك بنى عدد من ملوك بريطانيا على فترات متباعدة منصات تحمي ما تم تحقيقه وانطلاقاً للمزيد ، ليس عشقاً وتتيماً بالديمقراطية بل لتجيير ولو جزء مما انتزعه النبلاء من الملك إلى حساب الطبقة الوسطى نكاية بالنبلاء، يرد النبلاء بتعديلات على القوانين يستفيد منها النبلاء، بالدرجة الأولى ثم الطبقة الوسطى على حساب السلطات الملكية الأبوية ذات الصلاحيات المغلفة بهالة القداسة (Devine Rights) ، إذ كان الملوك الأوروبيون يعتبرون  بأنهم يستمدون سلطاتهم مباشرة من السماء، و في أوقات لاحقة تراكمت استفادات الطبقة الوسطى من الفتات، ثم عمت منافع فتات فتات "الوثيقة العظمى" وما تلاها من تعديلات تدريجية بطيئة الشعب البريطاني، والشعوب الأوروبية الأخرى.
في فترة لاحقة أرسى المصلح الاجتماعي-الديني مارتن لوثر في ألمانيا في العام 1517 أسس العقيدة البروتستانية. أعقب ذلك ثورتان في بريطانيا هما الثورة الطهرانية "Puritans" في العام 1640 م والثورة المجيدة (Glorious Revolution)عام  1689. تلتهما الثورة الأميركية عام 1775 م والثورة الفرنسية عام 1798 م.  جميع تلك الثورات نادت بمبادىء العدل والمساواة والتحرر، وبجرعات جريئة من حقوق الإنسان وحريته ، ثم تطورت أكثر لتتطرق إلى تكافؤ الفرص وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي  وحرية المعتقد الديني.

بقدر من التسليم بفضل الغرب كقابلة وُلدت الديمقراطية على يده، بالقدر نفسه وأكثر، نجزم بأن تلك اليد قد أمسكت بصمامات الصنبور وضبطت إيقاع تساقط قطرات الدمقرطة على شعوبها، وقننتها وكيفتها بما يتلاءم مع مصالح الطبقات الحاكمة في الغرب الرأسمالي فقط ، حيث أعطت القليل لشعوبها بغرض تسكينها وتخديرها وكسب ولائها كي تحارب بها، وضنت بالكثير على الشعوب الأخرى التي كانت تخضع لاستعمار قاس بشع وحشي طوال عدة قرون، أبيدت خلالها حضارات عريقة كالأنكا والإزتيك والمايا، إضافة إلى ملايين البشر في أفريقيا وآسيا  والأميركيتين (الهنود الحمر والسكان الأصليين في أستراليا)، و خضعت الملايين الأخرى للاستعباد والاستغلال والقهر والظلم ونهب خيرات البلاد.
يمكننا كعرب أن نقنع حالياً، وكخطوة أولى بفتات فتات فتات الديمقراطية، كي لا "نغص" بها، سوف نرضى بما تيسر حتى ولو كان فتات فتات الفتات لأننا، وللأسف، لسنا مؤهلون بعد لهضم تلك "الطبخة" الجديدة.
 قد يُغضب هذا الكلام البعضَ، ولكن ذلك البعض لن يستطيع تقديم ما يثبت العكس طالما أننا موبوؤون بالطائفية والمذهبية والتعصب و مرض "أنا الصح وأنت الخطأ" ، واكثر من ذلك، طالما أن بعضنا يعشق القيود والسلاسل فتراه أعينهم سلالم مجد، وطالما أن حكوماتنا تصدِّق شعار "كما تكونوا يولى عليكم" وتطبقه بحذافيره.
 مَن الملام إذن ؟ وعلى من تقع مسؤولية غياب شمس الحرية الحقيقية والديمقراطية عن بلادنا؟ و من أين يبدأ الحل؟ هل من قبل الحكومة أم من قبل الشعب؟
هذا السؤال يضعنا أمام معادلة وجوب ضمان الحكومة لحرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي والتجمع السلمي وحرية المعتقد الديني، في المقابل، أن يكون لدى المواطن الحد الأدنى من ضروريات الحياة كالغذاء والملبس والسكن والتعليم ما يتيح له أن يرتقي بعدها درجة على السلم من حيوان مجتمعي إلى حيوان إجتماعي، إذ يصبح لديه وقت فراغ وهدوء بال واطمئنان إلى غده فيُقبِلُ على التثقف وتحصيل الوعي الذي يؤهله متابعة ما تتخذه حكومة بلاده من قرارات وقوانين، ومدى التزامها بتنفيذها بنزاهة ودون هدر لمقدرات وخيرات الوطن، ويفهم الأحداث التي تدور في بلاده وخارجها، ويستوعب البرامج الانتخابية التي يغدقها المرشحون، وإمكانية التمييز بين غثها وسمينها، ومتابعة مدى التزام "النائب الجديد" بالإيفاء بالتزاماته ووعوده الانتخابية ومراقبة أدائه بحيث يتمكن الناخب من مساءلته دون أن يخشى عقوبة فصله من وظيفته أو عدم دعمه بتوظيفه أو.. أو..  .. وما أكثرها .
إذا كان التطور واللحاق بركب الأمم المتحضرة من أهدافنا فعلى حكوماتنا، بل علينا مطالبة حكوماتنا اليوم قبل الغد، معالجة ورم مزمن يُحَتِّمُ فصلَ الدين عن السياسة أوَّلاً وأوَّلاً وأوَّلاً، و وتعديل المناهج التربوية بحيث تضيء للنشء الجديد على طريق الوطن وليس على زواريبه. إذ من النشء الجديد سوف تنبثق، أو من المفروض أن تنبثق نخبة الغد السياسية، وتُعدِّل كفتي الميزان لإحقاق الحق وأنسنة البيئة الإجتماعية بكافة أطرها، هذا بعد أن تكون تلك النخبة العتيدة قد تشبعت ببرنامج تربوي وطني إنساني حضاري كي ننعم بيقظة حقيقية بعد نوم طويل مديد .
زأر مارد التغيير، أضحت الكلمة الفصل للشعوب وانتهى عصر كلمة الفرد-الحاكم ولا مناص من تلبية النداء، فلتكن استجابة من لم يتعظ عاجلاً كي نوفر على أولادنا وأحفادنا جبالاً من المعاناة وأنهاراً من الدم. ولنعلّمهم منذ هذه اللحظة ثقافة التنوع، ولنرجو سياسيينا تقبل مبدأ تداول السلطة، وليحكم من يحكم طالما توفرت بيئة المساءلة التي سيكون فيها البقاء للأصلح، وليبقى من يراه الشعب هو الأصلح، وليس من تفرضه تعليمات القائد الملهم وبيادقه وكهوف مخابراته.    

CONVERSATION

0 comments: