كلمة د. رغيد النحّاس في حفل إطلاق كتاب "خارج السرب" للمربّي جورج الهاشم

 يوم 6/07/2015

جورج الهاشِم: المشاغب الودّيّ، وفنّ الحراثة...

أيّها الحفل الكريم،
في استعراضنا لبعض الصور التي التقطتها له ابنتُه لارا في حديقة الدار التي يزرعها بيديه من طيّب الخضار والفاكهة والأعشاب، حمل جورج واحدة منها وقرّبها من ناظريّ قائلاً: أنظر، أنا مجرّد فلاّح، أليس كذلك؟

نعم يا صديقي. أنت فلاّح يجيد الحرث والبذر والجني.
أنت فلاّح يحرث في بيادر الفكر والتعليم أثلاماً من الإعداد للمستقبل.
أنت فلاّح يبذُر الصلاح والتفاهم والمحبّة والعمل الدؤوب في أرض جنى عليها مالكوها.
أنت فلاّح يرعى ما ينبت من أيّ مِلّة أو علّة، راغباً في الخَلق السويّ والخُلق الحسن.
مياهك التي تسكب مشْبَعَةٌ بأكاسير العمل الدؤوب، والصنيع الحميد، والخطط المتقنة، والتفاني في سبيل النشئ الصاعد.
أنت فلاّح يكرّس حرفانيّته لمصلحة كلّ أرض عامرةٍ كانت أم يباب.
تليق بك الأرض والبذور والشجر، ففي أناملك حنان يرعى النبات حتى يَنْضُجَ بالثمر.

أخاطبك يا صديقي لأنّ التعامل مع كتابك "خارج السرب" هو في الواقع تعامل معك. فهذا الكتاب هو مرآة لفكرك، وتجاربك، وأسلوبِ عملك، وما تعرّضت له من تعقيدات في مسيرة حياتك.
أنت خارج السرب، لكنّي أراك تحطّ في ربوعه دائماً، تبذل ما تستطيع، ثم تعلو لتلقي نظرة شاملة، تدور وتدور، ثم تحطّ من جديد، فكأنّي بك تتمنّى أنْ لا تكون خارجه. ولعلّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو هبوطُك المدوّي الثاني بعد كتابك الأوّل "محطّات ومواقف من سيرة مهاجر"، ولن أعجب إذا ما سمعنا دويّ أجنحتك العائدة إلينا في المستقبل.
أيّها السيّدات والسادة، يعكس لنا كتاب "خارج السرب" شخصيّة كاتبه التي بلورها بالتجربة، والمعرفة، والأخلاق. فهذه هي العناصر التي تنصهر في بوتقة فكر جورج الهاشِم، الذي يُعمل فيها أسلوبَه فيَسْبكها سويّاً ليعطينا هذا المُنتَج. ويعزز عرضه للأفكار والقضايا بمعطيات حقيقيّة ووقائع تاريخيّة، كاستعراضه لأصول السلفيّة (ص28). كلّ ذلك من خلال ذِهنيّة تكامليّة تضع النظريّة في خدمة العمل المدروس، والعمل في خدمة التنظير لهدف التخطيط الأمثل. هذا لأنّ جورج يهتّم بالجوهر، كما يهتم بالنتيجة. وفي سبيل ذلك يتحلّى بصفاتِ، وينهج منهجَ روّاد الإصلاح الذين لا يريدون أنْ يغْفَلوا عن أيّ شاردة أو واردة تعيق تقدّم المجتمع.
يوظّف جورج أسلوبـَه الفكريِّ كعجينة يخلط فيها ثمار تجربته ومعرفته وخُلُقِه. وهي ثمار ملطّخة الوجنات بأوشحة من البراغماتيّة، والموضوعيّة، والعدالة، والعلميّة. 
يقول مثلاً (ص103): "لا يهمّني إنْ خصّص طوني أبوت حقيبة وزاريّة للتعدديّة الثقافيّة أو لم يخصّص. فعندما تتأصل التعدديّة الثقافيّة في المجتمع الأستراليّ ستفرض نفسها ليس على الحقائب فحسب، بل وعلى موزّع الحقائب، وعلى العقل السياسيّ والاجتماعيّ الأستراليّ."
أهمّيّة هذا القول أنّه الفيصل بين الجدّ واللعب، وأعني هنا اللعب السياسيّ أو البيروقراطيّ، الذي يكرهه جورج، وليس أفضل من مثال "التعدديّة الثقافيّة" لفضح أساليب الحكومات في استخدامها لمصالحها، عوضاً عن الغاية الحقيقيّة التي كُرست من أجلها.
ليس جورج من يلقي باللوم على طرف وينسى الطرفَ الأهم، ألا وهو الجالية، بل البيت. يقول في نصّ آخر (ص191): "التشويه الثاني الذي ترتكبه بيوت كثيرة بحقّ أولادها هو التعميم العنصريّ." ويشرح كيف يتحزّب كل فريق لذاته ويلقن أولادَه كره الآخر، ثم يخبرنا كيف سيكتشف الولد مغالطات أهله "فتهتزّ صورتهم في ذهنه ويتسرَّب الشكّ إلى كلّ ما لقّنوه إيّاه من قيم".
بعبارة أخرى يتكلّم جورج عن التمييز المعاكس بكلمات بسيطة ذات مدلولات هامّة تدلّ على أنّ الهمّ الآنيّ يجب أن يكون محفوفاّ بنظرة تَحْسِبُ حساب المستقبل وعواقب الأمور، لأنّه دون ذلك لا يمكن إيجادَ حلول دائمة لأيّ قضيّة.
وهنا أؤكّد على أهميّة الفصل الثاني الذي يحمل عنوان "من جعبة مدرّس"، والذي قد لا يثير القارئ مثلما يثيره الفصل الأول أو الثالث نظراً لطبيعة مواضيع كلّ فصل، لكنّ إشارات جورج إلى أهميّة تربية النشء كأساسٍ لأيّ تقدّم مستقبلي، وهي صميم ما عانى منه، وهو المعلّم المجرب، تعزّز ذلك.
ها هو يخاطب إحداهن (ص169): "إنّك يا سيّدتي قد فقدت ابنتك منذ زمن طويل. كما فقدها أبوها. عندما لم تتفقا على أسلوب واحد في التعامل معها. وعندما قرّرتِ التغطية على مخالفاتها، وعندما غسل زوجُك يدَيه من مسؤوليّاته."
ومواقف جورج تتطابق مع ممارساته المهنيّة، فيخبرنا في أحد نصوصه (ص182) كيف كان ضدّ إلزاميّة تعليم الدين لأنّ تعليم الأخلاق يتعلّمه الولد في البيت بالممارسة، والمشاهدة العينيّة وليس بالأقوال.
وليس أفضل ما يدلّ على أخلاق جورج من قوله (ص138): "مَن أعرف من السريلانكيّات والفلبينيّات في هذا البلد يشرِّفن معظم مَن أعرف من سياسيّي لبنان." هو هنا يواجه غرور اللبنانيين وتمييزَهم واضطهادَهم لمن يعتبرونهم مجرّد خدم في البيوت، بينما كلّنا يعلم هنا أنّ هذه الجاليات كغيرها، بعض أفرادها وصل إلى درجة مرموقة، والخدمة على أيّ حال مهنة شريفة، وليست كاحتيال بعضهم أو تقاعسهم عن العمل.

وإن كانت الأمثلة السابقة توحي بحلول ضمن نصوصها، ضمّ كثير من النصوص وصْفَات لحلولٍ مباشرة كقوله التالي (ص 154) حول العلاقة بين الأهل والمدرسة،  والذي هو وصْفَةٌ تربويّة بامتياز: "هذه المرحلة تتطلّب منّا، كأهل، غرسَ القيم والعادات الحسنة في أطفالنا. إحاطتَهم بالحبّ والرّعاية والحنان. الاتّفاقَ مع شريك وشريكة الحياة على أسلوب موحّد للتربية. احترامَ شخصيّة الطفل، والعملَ على تنميتها. اعتمادَ مبدأ الثواب والعقاب (وليس الجسديّ). العدلَ والمساواة بين الأولاد. عدمَ إهانة الأولاد وتحقيرهم. عدمَ محاولة إيجاد نسخة ثانية عن الأهل. اعتمادَ مبدأ الحوار دائما معهم. إشعارَ الولد بالمسؤوليّة، وإشراكَه في القرارات. تنميةَ قدرات الولد بتعريضه دائماً لنشاطات مشتركة مع بقية أفراد الأسرة، مع الاستفادة طبعاً من خبرات الآخرين في هذا المجال." 
****
جورج حكواتي صحافيّ قاصّ ناقد اجتماعيّ كوميديّ وتهكّميّ، حتّى أنّ بعض مواضيع الفصل الثاني فيها نصوص أشبه بالكتابة المسرحيّة، ويبرز نصّ "عزرائيل... أين عرفتُك؟"، من الفصل الأوّل، كقصّة قصيرة ذات أسلوب أدبيّ طريف (ص86).
ومن أمثلة أسلوبه الأدبيّ قولُه (ص189): "ولا أدري كيف لمحت في دمعتها المتدحرجة على خدّها شبحَ جلاد يطلق عليه الناس اسم الوالد"
 وهو في كلّ هذا صاحب تعبير مباشر سهل، وليس ممتنعاً على الإطلاق.
أراه فصيحاً يكتب بالعاميّة، أو عامّيّاً يكتب بالفصحى!
خذ مثلاً عبارَته (ص163): "أخوها سيدخل السجن بعد إشارة أو إشارتين. "لا غبار على فصاحة هذه الجملة، لكنّها أيضاً جملةٌ قد تتلفظها قارئة فنجان قهوة عاديّة.
ويختم تعليقاً له على أفعال بعض السياسيّين بقوله (ص140): "فيا ليت جدّتي لا زالت على قيد الحياة لتقول لهم: بلا أكل هوا..."
يقول (ص23) في تعليق له على كتاب للأستاذ كامل المرّ: "يمكنني القول إنّي أتَّفقُ مع الأستاذ كامل بالجّملة، وأختلف معه بالمفرّق..."
ويوظّف في لغته (ص134) آخر صرعات العصر في عبارته: "معظم التقارير تقول إنّ داعشاً هي ابنة غير شرعيّة من نكاحِ جهاد مستمر بين المخابرات الأميركيّة والمخابرات الإسرائيليّة."
ويضيف من عنده (ص106) ما يكافئ الأمثال الشعبيّة للتأكيد على فكرة معيّنة كما في قوله: "وإذا طُلب منّي المفاضلة أقول: كما حسن كما حسين. وحتّى لا أُتّهم بالطائفيّة أقول: كما حنّا كما حنين."
وللتهكّم مكانةٌ خاصّة في كتابات جورج لأنّه يخدم أكثر من غرض واحد، وما السخرية فيه سوى المدخَل إلى المقاصد الأبعد. 
يعلّق (ص162) على امرأة لديها من الأولاد ما لا تستطيع توفير العناية لهم بقوله: "أمّا الأمّ، فإنّها تعاني الآن من مرضِ انتفاخ البطن، ومشكلةٍ تاسعة على الطريق."
هنا، الحمل، الذي من المفروض أنّه نعمة كبرى، يصبح مرضاً لأنّه سينتهي بطفل تاسع إضافة إلى ثمانية لا يلقون ما يستحقّون.
ويصل (ص201) إلى أوج تهكّمه الجادّ في انتقاده للأزواج الذين يعيشون دون مستوى الحيوان ويهملون تربية أولادهم الذين هم: "... بحاجة إلى عناية مستمرّة من قبل الأب الذي يجب ألاّ يعتبر دورَه منتهياً بانتهاء عمليّة "القذف"، وإلى رعاية مستمرّة من الأمّ أيضاً والتي يجب ألاّ تعتبر دورَها محصوراً بين غرفة النوم والمطبخ."
العمليّة أصعب بالنسبة لما أسميه التهكّمَ الإيجابيَّ (طبعاً يمكن أنْ نذكر هنا أنّ من فنون اللغة العربيّة "الذمّ بما يشبه المدح"، إلخ...)، لكنّ جورج أتقن هذه العملية أيضاً دون أن يوّفر نفسه.
يقول عن نفسه في مقدّمة الفصل الثاني إنه "مدرّس مشاغب". وأستذكر هنا وصف الراحل بطرس عنداري لكِتابَة جورج على أنّها "المشاغَبَة الودّيّة"، وأقول إنّه مشاغب ودّيّ. لذلك كان يحظى بمكانة خاصّة، فيقول (ص164) في معرض اختياره لإحدى اللجان: "كنت مطلوباً جداً. فمواصفاتي مغرية جداً. فمن شروط تشكيل اللجنة، أيِّ لجنة، أنْ تضمَّ ذكراً على الأقل، في مهنة نسبة الإناث فيها 80%. ويجب أنْ تضمَّ  أيضاً ممثلاً عن الأقليّات الإثنيّة. والشرطان، ولا فخر، متوفران في شخصي الكريم: فأنا من خلفيّة إثنيّة، وأنا الذكر - على الأقلّ - أيضاً."
ويرقى بمواصفاته إلى أن تصل به الجرأة لإعلان ترشّحِة لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة في مقال تهكّميّ بامتياز (ص44).
ومن أجمل ما قاله (ص97) في هذا المجال التهكّميّ: "ألم يسمعوا بحسن كامل الصبّاح الذي أضاف متراً إلى قامة الحضارة العالميّة؟"

المنطق الصحافي التقريري الذي يطغى على أعمال جورج، والذي لم يمنعه من استخدام كل تلك الفنون الكتابيّة، لم يمنعه من إظهار نفحاته الأدبيّة، كما بيّنا سابقاً، ونضيف على وجه الخصوص ما يتعلق بالقول الحكيم الذي يتطلب الفعل الجادّ، فيمكن تجميعَ عددٍ من الأقوال الهامّة الممتعة من خلال نصوصه، ولو كنت أنا ناشر الكتاب لاستعضت بها عن أقوال الآخرين التي عرضها جورج تحت باب "الكلمة الأخيرة". 
أحبّ هذه الأقوال إلى نفسي (ص133) هو:
"في طحن الجبال تشويه للبيئة، وفي طحن النصوص تشويه للعدل!"

أمّا أنت أيها الفلاّح، فلا أراك سوى طاحناّ لحبوب الصلاح لتصنع عجين التقدّم، وعاصراً لأعناب الفضيلة لتُقَطّر شراب الديمومة، لمستقبل من يأتي بعدك، وفي هذا نبل وشهامة.

شكراً لأنّك شاركتني بكسرة من خبزك، وأشربتني نقطة من خمرك.
وشكراً لكم جميعاً.

CONVERSATION

0 comments: