وعدت رغم أنف الأسد/ محمد فاروق الإمام

لم يحل قانون العار رقم (49) الذي أصدره حافظ الأسد عام 1980 والذي يحكم على كل من ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين بالإعدام بأثر رجعي ويمنع أقرباءهم حتى الدرجة الرابعة من شغل أي وظيفة في الدولة.. لم يمنع هذا القانون من أن أعود إلى أرض الوطن عزيزاً كريماً منتصب القامة أتنسم الحرية بلا رقيب أو حسيب يعد علي أنفاسي ويتتبع خطواتي.
ففي العاشر من أيلول عبرت الحدود التركية إلى سورية العز والكرامة دون أن يستوقفني عنصر المخابرات ويتفحص شكلي ولوني وتقاطيع وجهي ويرمقني بنظراته القاسية وهو يتفحص جواز سفري ويقلب بقرف واشمئزاز صفحاته، ولم يفض حقائبي رجل الجمارك عابثاً بما تحتويه من أمتعة خاصة أملاً في الحصول على المعلوم.. فقد كان يقف في نفس المكان ثلة من شباب سورية الأحرار يستقبلونك بابتسامة؛ مرحبين بك بوجوه ضاحكة مستبشرة: أهلاً بكم أنتم في سورية المحررة.
نعم أنا الآن أطأ تراب سورية المحررة دون أن أنسى أن أسجد لله سجدة الشكر بما أنعم الله به علينا واستبدل الأوباش بالأخيار الذين طووا صفحة الذل والعبودية والخوف والرعب التي عشناها لأكثر من نصف قرن في ظل حكم طغاة البعث الذين سرقوا الوطن من أهله غيلة وغدراً في الثامن من آذار عام 1963 وحكموا أهله بالحديد والنار والقوانين الجائرة، وكان في استقبالي أولادي الذين لم أرهم منذ عشرين عاماً وأبناء عمومتي وأصدقائي الذين فارقتهم لأكثر من ثلاثين عاماً، وكان لقاء حميمياً غلبت عليه مشاعر الشوق وألم الفراق وتساقطت الدموع بعفوية من المآقي على الوجنات والخدود، واصطحبني هذا الجمع الطيب إلى الديار وهالني ما رأيت فقد كانت معظم البيوت بين مدمر ومحترق وآثار الخراب والدمار يخيم على مدينتي الأبية (عندان) بفعل عبث جنود الأسد بما يملكونه من أسلحة فتاكة زرعت الدمار في كل شارع وبيت وثكلت الأمهات ورملت الزوجات ويتمت الأطفال، وبكيت بدموع غزيرة أمام مشهد مقبرة الشهداء التي ضمت رفات أكثر من أربعمائة شهيد من خيرة شباب وفتيان ورجال ونساء وأطفال مدينتي الباسلة التي لم تنحن أمام جبروت طغيان الأسد ونيران أسلحته الفتاكة والمدمرة، وأرغمته على التقهقر والفرار لا يلوي على شيء إلا النجاة بروحه، وكان ذلك الأمر صعب المنال أمام ملاحقة وضربات ثوار المدينة البواسل، وتحقق تحرير المدينة تحريراً كاملاً في وقت قياسي لم يتوقعه أحد، وقد ملأت شوارع المدينة وساحاتها دبابات ومجنزرات جيش النظام المتهالك المحروقة والمدمرة، تحكي فصول تلك الملحمة التي خاضها أبناء عندان الأبطال مسجلين أول انتصار شامل على النظام في سورية ولتدخل مدينة عندان التاريخ على أنها أول مدينة محررة في سورية الثائرة.
الحديث ذو شجون وعشق الحرية فنون والفوز بالكرامة أمر مهول.. تقصر الكلمات في التعبير عما يجيش في الفؤاد وما يعتمل في القلب من انفعالات وأحاسيس، فالحرية لا يعرف طعمها إلا من حرم منها والكرامة لا يعرف قيمتها إلا من سلبت منه.
أخيراً سورية الحرة الحبيبة تستحق منا الكثير والكثير وأقل ذلك أن يعود إليها الجميع اليوم قبل الغد فهي بحاجة إلى كل واحد منا، ولكل واحد منا ما يمكن أن يقدمه لها في هذه المحنة التي تعيشها، والتاريخ سوف يحاسب كل من يقصر منا تجاهها، فالأوطان لا تبني بالقيل والقال ومعسول الكلام أو التأوه والنحيب والتألم والبكاء، أو السهر أمام شاشات التلفاز وتتبع الأخبار والحوارات والتقارير والفديوهات.. الأوطان تبنى بسواعد وعقول الرجال من أبناء الوطن.. ولدينا الآلاف بل الملايين الذين يعيشون خارج أسوار الوطن، والوطن بحاجة إليهم جميعاً دون تمييز بين عرق أو دين أو مذهب أو طائفة فالوطن للجميع ومطلوب من الجميع العودة السريعة إلى الوطن الجريح الذي يستصرخهم ويستصرخ ضمائرهم!!  

CONVERSATION

0 comments: