اسحق قومي: ليس أنا من اخترت عالم الحرف، بل تكوّن معي منذ أن كنتُ في رحم أمي

أجرى الحوار: صبري يوسف

الأديب والشَّاعر والباحث السُّوري اسحق قومي، المقيم في ألمانيا منذ عام 1991، مواليد قرية تل جميلو 1949 التابعة لمحافظة الحسكة، خرّيج جامعة دمشق، قسم الفلسفة. 
اشتغل مدرِّساً  لكافّة المراحل التَّدريسيّة، الابتدائيّة، الإعداديّة، الثَّانويَّة والصَّف الخاص. كما اشتغل مدرسِّاً لمادّة التَّربية العامَّة وعلم النَّفس وعُيِّن نائب مدير معهد إعداد المدرِّسين ورئيس قسم الدّروس المسلكيّة حتى عام 1988.
هاجر عام 1988 إلى أميريكا وعمل في الصَّفحة الثَّقافيّة لصحيفة الاعتدال في نيوجرسي وصحيفة الهدى اللُّبنانيّة في نيويورك، ثم هاجر إلى ألمانيا عام 1991 حيث يقيم حتَّى الآن. يقضي معظم أوقاته في الكتابة والمطالعة.
ينشر في العديد من الصّحافة الورقيّة والالكترونيّة في بلاد الاغتراب كما أنّه مدير ورئيس موقع "اللُّوتس المهاجر"، الَّذي أسَّسه لنشر الأدب والثَّقافة والفنّ، حيث يشرف على إدارته وتحرير مواده!
                                                               
يكتبُ الشِّعر منذ عام 1966، ثمّ توغَّل رويداً رويداً في فضاءات القصَّة والرِّواية، كما لديه اهتمام كبير في البحث التَّاريخي. شارك في الكثير من الأماسي الشِّعرية والمهرجانات الأدبيِّة حتى عام 1988. نشر نتاجاته آنذاك في الصَّحافة السُّوريّة، وشارك في لقاءات أدبيّة تلفزيونيّة وقدَّم عدّة قصائد عبر برامج إذاعيّة. "لهُ مملكة واسعة الأرجاء أسماها الحب والنَّهار سيجمع البشر.". 

نشر أوَّل مجموعة شعريّة عام 1983 بعنوان: الجِّراح الَّتي صارت مرايا، ثمَّ أصدر في عام 1984 مجموعة شعريّة للأطفال بعنوان: أغنيات لبراعم النَّصر.
ولديه عدّة مجموعات شعريّة مخطوطة: مواويل في سجون الحرّية، العاشقة القديمة منى، قمر يا قمر، نُغنِّي للبشر (للأطفال)، مواسم الحصاد، الشَّاعر والمقصلة، نبوءات العهد البابلي، أناشيد لآلهة الخابور القديمة، زورق على نهر الرَّاين، لماذا بكت عيناك؟، عبد الأحد قومي شراعُ في مدى القصيدة، الموت في المنافي البعيدة، بانوس لازال صيفنا حارقاً، سوف أبقى أُغنِّي، (وهو ديوان ٌشعري باللُّغة الإنكليزية تُرجم إلى اللُّغة الألمانيّة)، فاديا، البنفسج المبلَّل بالدّموع، ابتسامات الأمس السَّاخرة، ليس عندي قمر.        
                                                    
ولديه مجاميع قصصيّة مخطوطة: الأزهار تضحك مرتين، وقصَّة ناسج الثِّياب في قرية القصور، جلّنار: ليتني كنتُ أميراً للغجر (قيد الطَّبع)، وحسّان والبرتقالة.

ولديه أعمال روائيّة مخطوطة، دموع تأكل بقايا صمت، عاشق أُختي، المسافر إلى الفراغ، كان اسمها سونا، في الطَّريق إلى الزَّللو، المستحيل كان جنوناً، جلجامش يعود ثانية، المحطَّة، أنا وأهلي على ضفّة الهاوية، شهرزاد.

وفي البحث التَّاريخي له عدّة كتب نشر بعضها عبر الشَّبكة: القصور والقصوارنة، قبائل الجزيرة السُّوريَّة، وابتهالات لمن خلق الوجود.

ويعتكف منذ فترة على عدّة كتب منها: مئة عام على بناء مدينة الحسكة، المسيحيون في الجزيرة السُّوريّة، أعلام الأمّة السِّريانيّة الآشوريّة الكلدانيّة، الإبداع  والحركة الشِّعريّة في الجزيرة السُّوريّة، وغيرها من الكتب.

التقينا مع الأديب والشَّاعر اسحق قومي، الغزير في إنتاجه الإبداعي، فكان هذا الحوار:
 1 ـ ما الَّذي قادك إلى عالم الحرف وفضاءات القصيدة؟ 
ج 1ـ ليس أنا من اخترت عالم الحرف، بل تكوّن معي منذ أن كنتُ في رحم أمي  وهو من اختارني وأحاطني برعايته وكما تعلم ما للوراثة من تأثيرٍ في وجود الموهبة  فأبي كان شاعراً وأخي المهندس يُعاقر الشعر والأدب وأخي الشَّاعر والأديب الرَّاحل عبد الأحد كان شاعراً وعالم الحرف سحرٌ وإضافات، لهذا جذبني إليه وانجذبتُ إليه بكليتي، عالمه رائعٌ  وجميلٌ ورهيبٌ فهو عندي كأحد معابد الآلهة التي تسحرنا برهبتها وروعتها وجمالها ولأنه يمثل الخير والحق والجمال رحت أزركشُ همومي فيه وبه، إنّه معبدي وجناني المعلَّقة الَّتي أستعيض به عن جنائن أجدادنا الميامين على برج بابل.                               
 2 ـ كيف تلتقط خيط القصيدة الأوَّل، الإشراقة الأولى، وكيف تنمو أغصان القصيدة؟.
ج 2 ـ ليس أنا من يكتب القصيدة بل هي تكتبني والولادة عندي تأتي دفعةً واحدة ولا تحتاج إلى عمل جراحي، أفضل المواليد من يأتي دون أيِّ اضطرابات أثناء الولادة، الإشراقة الإبداعية رعشةٌ سحريةٌ تهزُّك دون مقدِّمات حين تتفاعل مع الجمال والحقّ والخير، فتأتيك عاشقة أضناها البعد فترتمي بين ذراعيك. وهنا أُؤكد على أهمية مراحل الإبداع في الإشراقة الأولى واستكمال النَّص الإبداعي ومؤثِّرات التَّجربة ومدَّتها والجهد المبذول من قبل المبدع ومعرفة أدواته كلّ هذه تلعب دوراً في تكوين دوحة متكاملة اسمها القصيدة سواء العاموديّة التي تتجاوز سبعة أبيات أم التَّفعيلة أم ما يُسمى بالقصيدة
الحرّة.  
 3 ـ  عندما تجسِّدُ نصَّاَ شعريَّاً، يمرُّ في حالة مخاض: لدينا فكرة، حالة انفعاليَّة، أوزان القصيدة، كيف توائم ما بين الفكرة، انبعاث المشاعر وأوزان القصيدة؟!  
ج 3 ـ قلتُ أنّ القصيدة أو النَّص هو من يكتبني وليس أنا، بمعنى آخر أرى أنّه لا إرادة لنا  في زمن الحَمَل الّذي يمرُّ بها النَّص قبل المخاض وأستطيع القول أن حبل السرّة والمشيمة يكوّنان المنطقة الإبداعية اللاإرادية تماماً بالنّسبة للمبدع،  كما تؤثِّر الثَّقافة الَّتي يحملها ويتفاعل معها المبدع  في تجسد النَّص الشِّعري، أمّا بالنسبة لتكامل القصيدة وزناً ومعنى وعاطفةً وخيالاً وتجديداً، فهذا يعتمد على التَّجربة الَّتي صقلتها المثابرة والإرادة والجهد والإذن المرهفة ومعرفة عوالم البحر الذي خضت به  والقوارب التي ستتعامل معها حتى يكتمل ذاك النَّص وينبلج الفجر على مولودٍ متكامل الخلقة.               
 4 ـ هل تشعر أحياناً أنَّك تحتاج إلى كتابةِ نصٍّ شعري متحرِّر من أيِّ قيدٍ أو وزنٍ، فتكتب بانسيابيّة بعيداً عن الأوزان الشِّعريّة، وكأنَّك في رحلة باذخة في وهج الإبداع؟! 
ج 4 ـ الحالة النَّفسية والجَّسدية والرُّوحية والبيئية تلعب دوراً هاماً في الولادة الإبداعيّة لأيِّ عمل  كان وأرى أنَّ المبدع يمارس طقوسه على اختلاف تجلِّياتها وحالاتها فهو كائن مبدعٌ يشعر بلذة ونشوة حين يؤدِّي مراسيم الخلق والإبداع ضمن هياكل عوالمه الساحرة، أجل ليس من الضرورة أن يولد النَّص محمولاً على الأوزان الخليليّة وإنَّما قد يولد من خلال  نصٍّ نثري  يتكاثر ويتمدَّد كضوء الفجر في تكوينه المهم هو القيمة الفعليّة لذاك النَّص من خلال وضعها في ميزان قيم الخير والحق والجَّمال، وإذا كنتُ أعتبر القصيدة العاموديّة الميزان الَّذي تُمتحن به شاعريّة الشَّاعر، فأرى في القصيدة الحرّة (النثريّة)، الفضاء الرَّحب الذي أحبُّ أن أحلق به لأنّها تحمل عناصر الرَّمز والفلسفة وتكثِّف جميع مراحل الميثولوجيا لا بل القصيدة الحرّة أو النَّص المتدفق يكشفُ عن مكنونات النَّفس والذَّات الإنسانيّة بشكلّ أكثر وضوحاً من القصيدة الموزونة.                                 
 5 ـ قرأتُ في بطاقة تعريفك أنَّك تُعدُّ ممّن جَّددوا في الأوزان الشِّعريّة، حيث أبدعْتَ بحراً جديداً أسميته الوافي القومي، وقد أسماه الدَّكتور أحمد فوزي بالمنبسط، متى حصل هذا وكيف تمَّ هذا التّجديد الوزني؟.
ج 5 ـ أرى أنّ مهمة المبدع  لا تقف  عند  حالة التقليد بل أن ينتقل بنا إلى  رحاب  إضافات إبداعية  فعباءة الخليل والأخفش لبستها منذ منتصف الستينات من القرن العشرين المنصرم ورأيتُ أنّ المبدع لا يكفي أن يخلق تكويناً جديداً على خطى غيره بل هو من يستنبط من خلال الحركة والسكون ذاك الوزن الذي يُضاف إلى البحور المعروفة. حقاً تقول، لقد أبدعتُ بحراً جديداً في أوزان الشِّعر العربي وأسميته الوافي القومي وأصرَّ الدكتور الشاعر أحمد فوزي على تسميته بالمنبسط والأمر بعيد الأغوار يمتد إلى زمنٍ تأثرتُ بالتّراتيل السِّريانيّة الَّتي كنتُ أجيدها في المرحلتين الابتدائية والإعدادية والتي كانت تقوم على بحور وألحانٍ تفيضُ في الرُّوح والنَّفس قدرةً على الإبداع  فمنذ منتصف الثَّمانينات  تراني أؤسِّس  لمشروع بحرٍ جديد في الوزن الشِّعري و كنت أتحسب ليوم يأتي واختلف فيه مع العروضيين ـ وهكذا جاء ذاك اليوم حين أرسلتُ قصيدتي لموقع المربد ـ  (رسالة إلى الحلاج لم تُقرأ بعد). وجاءت عليها الرّدود الأولى من شعراء كثر بما لا اشتهيه ولكن شاعراً وأديباً عراقياً مبدعاً أسمه محسن كريم  انصفني حين جاء عليها تقطيعاً عروضياً،  فأكَّد على أن القصيدة موزونة وشاعرها متمكِّن من أدواته وأنَّه أبدع  بحراً جديداً وتجربة تستحق أن يحتذى بها بالرغم من وجود زحافات غير مستحبة وهذا بحسب قول الشَّاعر محسن كريم.
 6 ـ قرأت في بطاقة تعريفكَ أيضاً أنَّكَ جدَّدتَ في بحرين، الكامل والوافر فسُمِّيَ الأوَّل الكامل المحدث والثَّاني الوافر المحدث، كيف تمَّ هذا التَّجديد وهل برأيك الشِّعر المعاصر يحتاج إلى تجديد في الأوزان أم في الشِّعر نفسه؟.
ج 6 ـ أزعم أنني أحدثتُ فيهما وجوزتُ ما يجوز ولأنّ الخليل كباقي المبدعين الأوائل، تجربته ليست متكاملة ولا تحيطها القداسة فهي معرضة لأن يصيبها الخدش والنقد والتجديد والقصيدة كالحياة تتجدَّد ولهذا لا بدّ من توفير آليات جديدة في الوزن الشِّعري فهي أفضل من العبثية التي نراها لدى الكثيرين والتجديد تمّ لمعرفتي بالبحور وما يصيبها من زحافات وعلل وترفيل وتذييل وسبغ وتصريعٍ وخبن وطيء وخسف وما إلى ذلك وهناك قصيدة لي بعنوان: إِني من الشعر الرصين أغرفُ. توضح ما يصيب القصيدة من حالات ومعرفتي تلك قادتني للتجديد في البحرين المذكورين. التجديد في الشعر نفسه يعني أن يبقى شعراً يختلف عن تجليات أخرى وتسميات أخرى فالشعر كما عرَّفته سابقاً. موهبةٌ وصنعةٌ ومكابدةٌ وهو حالة إبداعية لها أهدافها الإنسانية والجمالية وعليه فلا بدّ أن يكون استجابة واقعية للواقع والواقع المتخيل ولهذا التجديد ضرورة حياتية وروحية وعقلية والجمادات وحدها تبقى ثابتة حتى يأتيها فعل الإنسان فيصيبها التغيير لكي تتناسب مع حاجته لاستخدامها كالحجر مثلاً. أجل الشعر سيبقى حاجة روحية وجمالية لا يمكن الاستغناء عنه ولكننا سنرى تجارب مختلفة في الشكل والمضمون والمهم أنها تؤدي غرضها الإنساني.
7 ـ ألمسُ في بعض قصائدك الكلاسيكيَّة، الَّتي كتبتها ضمن إيقاع البحور، نَفَساً حداثوياً، فأنتَ تكتب شعراً حداثويَّاً حتى وأنتَ تموسقه ضمن الإيقاع الخليلي، ما مردّ حداثويّتكَ وأنتَ تكتب نصَّاً كلاسيكيّاً؟!.
ج 7 ـ  أجل كما تقول، فبقدر ما تكون روح الشاعر شفافة ومنصهرة مع ما تستجاب له الروح والنفس والعقل والواقع لدى المتلقي، هكذا يتدفَّق النَّبع وتولد القصيدة التي هي حالة وجدانية راقية وكاتبها له منزلة النبي الذي تحيط به هالة من الألوهية، يكتب ألواح وصاياه التي يأمل أن يتقبَّلها القارىء وتترك أثراً في نفسه لا أن يأتي بوصايا غير مرغوب فيها ومردّ تلك الحداثوية في قصائدي الكلاسيكية هو أنَّ تلك القصائد لا تتكلف في ولادتها ولا حتى في تهذيبها إن وجد ولأنّ النبع المتدفق  يكون الماء الفرات تعبيراً عن جوهره وكينونته. 
8 ـ هناك مَن يكتب نصَّاً كلاسيكيَّاً، ومَن يكتبُ الشُّعر الحرّ بتفعيلاته المتنوّعة، وهناك مَن يكتبُ قصيدة النَّثر، أنتَ تكتب كلّ هذه الأجناس الشِّعريَّة، أين تجد نفسك محلِّقَاً أكثر؟!    
ج 8 ـ أكتب في جميع الأجناس الأدبيّة الَّتي ذكرتها.
أما أين أجد نفسي فهذا تقرره اللحظة الإبداعية وحالتي الرُّوحية والنّفسية والنّص الَّذي يولد ولادة متكاملة وبالغةً ومؤثَّرة هذا هو المهم ولا أستطيع أن أفرِّق ما بين نصٍّ نثري أو قصيدةًً إلا بقدرة هذا أو تلك على تأدية الهدف من الإبداع .
9 ـ مالَّذي قادك إلى الإبحار في الشَّبكة العنكبوتيَّة وتأسيس موقع أدبي أطلقت عليه: اللّوتس المهاجر؟.
ج 9 ـ لكوني أعاقر الكتابة والقراءة منذ أربعة عقود ونيّف ولم أنقطع يوماً عنهما لهذا أحبِّذ دوماً أن أتعلَّم المستجدَّات في أدواتهما ـ أعني ما أبدعه الإنسان كجهاز الكومبيوتر للكتابة والتخزين ـ  فقد اشتريت في نهاية عام 1994م جهازاً  يكتب بالعربية وساعدني  عليه  ابن أختي الأستاذ داؤود حجي وحين دخل ابني  سامر في عالمِ النِّيت، سهَّل عليّ دخول هذا العالم ورحتُ أتعلَّم وأكتب في بعض المواقع وهنا لابدّ من الإشارة لما ساعدتني به نور ابنة أخي عبد الأحد قومي في كيفية كتابة النص على الوورد وتخزينه ثم نسخه ووضعه في بوابات المواقع بعد أن كنت أعاني من كتابة النص كلما أردتُ نشره في موقع جديد. وكان للمقابلة التي أجراها معي موقع جزيرة كوم على إثر معرفتهم بي عن طريق يعقوب قومي، محطَّة أثَّرت على مجمل أفكاري فدخلتُ الشبكة العنكبوتية لتجيء أنتَ يا صديقي الشاعر والفنان صبري يوسف، وشجَّعتني على نشر نصوصي عبر الشَّبكة وعدم  خوفي عليها فكنت عوناً لي على الكثير من معرفتي بطريقة الكتابة والنشر، وأما بشأن موقعي اللوتس المهاجر فكان قبله منتداي الذي حمل عنوان ((مملكة الحب والنهار سيجمع البشر)). أسَّسه على طلب مني الأخ جورج مطانيوس عبيد وأمَّا من اجتهد في تأسيس موقعي  اللوتس المهاجر (الجيل الأول)، هو الصديق الفنان التشكيلي خليل عبد القادر ومن ثم جاء بعده  الصديق الأستاذ المهندس الفنَّان التشكيلي كميل فرجو الذي صمم لي الموقع بحلّته الحالية، فأوجِّه تقديري للجميع.
10ـ هل تستطيع أن تعيش من دون إبداع، من دون كتابة، ماذا يعني لكَ الإبداع؟!.   
ج 10ـ كأنَّكَ تسألني فيما أستطيع أن أعيش من دون هواء أو شمس أو غذاء؟!
لا يمكن أن أعيش من دون الإبداع، لأنَّ الكتابة والإبداع هما السَّماء الَّتي تؤسس لوجودي وأرى فيهما ذاتي وقد حفرها الشاعر الأول على لوحة الوجود والعالم والذاكرة الخالدة. الكتابة خلود وفتنةٌ وعاشقةٌ لوحتني عبر أتونها منذ أكثر من ستٍ وأربعين عاماً، الإبداع يعني الخلود.           
11 ـ كيف تكتب القصّة القصيرة، هل تستمدّها من حدث، من موقف أم من محفِّزات أخرى؟.
ج 11ـ منذ منتصف السّتينات كتبتها وهي إحدى الأنواع الأدبية التي أمارس طقوسي من خلالها، وأما
عملية ولادتها ذكرناها سابقا كما القصيدة يولد النص من خلال عدة عوامل ومؤثرات، والواقع وما عليه أهم نبعٍ لمواضيعي وجميع ما كتبته في هذا الجانب يؤدِّي وظيفة جمالية وإنسانية ويصطبغ بصبغة الحق والخير والجمال.
12ـ يصاحب الكاتب، الشَّاعر، المبدع متعة أثناء الكتابة، تحدَّث عن متعة ولادة النَّص؟.
ج 12ـ الكتابة والرسم والموسيقا والفنون بجميع ألوانها وحالاتها وأشكالها وتسمياتها تلبية وجدانية للذات المبدعة وهي رغبة في تدمير الواقع وإعادة خلقه على الشكل الذي يتوقعه المبدع بأنه أفضل من الشكل الأولي والمشكلة أنّ مراحل الولادة أو الإشراقة الإبداعية مرت عندي بثلاث مراحل، المرحلة الأولى ونستطيع أن نختصرها منذ منتصف الستينات وحتى منتصف السبعينات من القرن الماضي فكنتُ ثملاً بما أخلقه من نص شعريّ كان أم قصصيّ أم بحث تاريخي أو أدبي ولا يمكن أن نصف  تلك النشوة إلا كمن يشرب خمراً معتَّقاً وبعدها تراه يحلق في عوالم رائعة وغريبة وكانت تلك اللحظات تجسِّد الطموح والرغبة في إثبات وجودي بين من يعاقرون الكلمة، ومن ثمَّ انتقلتُ إلى مرحلة المسؤوليّة وما يرافقها من نشوة وخوف وترقُّب وبعدها حين تمكَّنتُ من أن أكتسب شخصية وخصوصية تحوَّلت النَّشوة إلى روعة وسحر وعالم يجذبك حتى الثّمالة.
13ـ لديك اهتمامات متعدِّدة في الكتابة، تكتب الشِّعر، القصّة، الرِّواية والمقال، وإهتمام كبير بالبحوث، وكلّ هذا يتطلَّب وقتاً فسيحاً، كيف تجد وقتاً لكلِّ هذه الأجناس الأدبيَّة الإبداعيّة؟!  
ج 13ـ سؤالكم جاء دفعةًً واحدةً، أمَّا طقوس كتابة كلّ هذه الأجناس فنستطيع أن نوزِّعه على عمرٍ أدبي تجاوز الأربعة عقود ونيف، البداية كانت مع قصة قصيرة ورافقها عدّة أبيات شعريّة نمَت الفكرة والولادات استمرَّت فيَّاضةً متدفِّقةً لا تعرف وقتاً ولا تُنذرك بالطمث بل تمر بك كالبرق الخاطف وعليك أن تجسِّدها على الورق  وبالرغم من مسؤولياتي البيتية والتَّعليمية والاجتماعية وغيرها فقد كنتُ أجد متَّسعاً من الوقت للمطالعة والكتابة لأنني لم أكن من رواد المقاهي ولا النَّوادي الَّتي كان أغلب زملائنا يصرفون أوقاتهم ضمن تلك الواحات بينما كنت أجد في المطالعة والكتابة لذَّة لا توصف أبداً. وحين وصولي إلى ألمانيا قادماً من نيوجرسي،  قرَّرتُ أن أستغلَّ الوقت والفراغ فتفرَّغتُ للكتابة والقراءة. لكن أشير إلى أنَّ الشِّعر لا يمكن أن يؤجل أو أن تكتب القصيدة أو جزءاً منها وتكملها فيما بعد، بعكس القصة ربما استمرت كتابتها أكثر من شهرٍ أما البحث التاريخي، فيحتاج إلى أكثر من ذلك.
14 ـ كيف تشتغل على نصٍ إبداعي، هل تنجزه وتنتقل إلى غيره أم أنَّكَ أحياناً تضطرُّ الاشتغال على حالة إبداعيَّة طارئة، ممَّا يجعلك إزاء حالات إبداعيّة مؤجَّلة، متى تستكمل معالجتها إبداعيَّاً؟!     
ج 14ـ أرى أنَّ هذا السؤال تضمَّنت إجابته في السُّؤال السَّابق، وأضيف هنا، القصيدة وحدها لا يمكن تأجيلها أو تركها وهي تعاني الولادة، أما المسرحية أو البحث التاريخي أو حتى القصة فيمكن أن تُنجزَ على مراحل.
15 ـ الوقت، برمجة الوقت، استغلال الوقت، كيف تتوازن مع أزمة الوقت إبداعيّاً؟.
ج 15ـ من لا يتمكّن من أن يضبط وقته فلا يمكن له أن يبدع، فمنذ صغري علَّمني والدي أنَّ الوقت له أهمية كبيرة وقد يمضي الوقت دون فائدة. ولكن  ليس كلّ مراحله وأزمنته قابلةً للإبداع فهناك وقتاً للنوم واللهو والجَّد والعمل والتَّواصل الاجتماعي والرُّوحي ولكن لو جاء مخاض القصيدة أسجِّلها على الورق ولو كنت في صحبة الصهباء أو أجمل .........؟.    
16 ـ أراك غائصاً في إعداد البحوث وبمواضيع متعدِّدة، ألا يؤثِّر هذا على إبداعكَ الأدبي؟.
ج 16ـ ما تقوله سليم لكن تعدُّد عناوين البحوث لم تلد دفعةً واحدةً وحينما يولد أيّ عنوان كان، تراني أعدُّ له مضافةً أو بيتاً أزينه بالمنهجيّة التي أرى فيها قدرةًً على الإفصاح عن مضمون العنوان والهدف منه. أمَّا عن سؤالكم ألا يؤثر على الحالة الإبداعية عندي فلا اعتقد، لأنّني حين أكون مع الكتابة فهي الوحيدة التي تأخذني إلى ملكوت الله حيث مفاتن الخلق والإبداع التي تحولني إلى حالة تشبه حالة  المتصوِّف المفتون بالذات الإلهية .
17 ـ لماذا علاقة المبدع مع المنابر الثَّقافيِّة والجِّهات السِّياسيّة واهية مع أنّه أسُّ المجتمع؟.
ج 17ـ أرى أن نوزِّع السُّؤال إلى شقَّين، الأوَّل حين يكون المبدع في وطنه فهناك مجموعة من الأسباب تجعله يبتعد أو يقترب من تلك المنابر والجِّهات السياسية، بالرغم من وجود فرصٍ كبيرة توفرت للمبدعين عبر ما يُسمى بالمراكز الثّقافية وأنشطتها كما المنظمات الشَّعبية.
أما الشّق الثاني فنجد المبدع في ديار الاغتراب وحالته التي يُرثى لها والمتاعب جمة أراها واختصرها في ما يلي:
مكان وجود المبدع المغترب يؤثر تأثيراً واضحاً فبعده عن مكان تجمع المبدعين، مسألة لها تأثيرها كما يؤثر المحيط  الاجتماعي في المبدع أيضاً. كما يفتقد المبدع المغترب لجماعة تتبناه وتمنحه فضاءات المثابرة والمتابعة ولكن الله قد منَّ على المبدعين بالأنترنيت التي أوصلتنا إلى أبعد مكان في المعمورة وعبرها تفاعلنا مع المبدع الآخر والقارىء فهي أفضل الوسائل للتواصل، لكن أؤكِّد على أنَّ هناك العديد من المبدعين لا يتعاملون بها وهذه مشكلة.
18 ـ أليس قصيراً عمر المبدع مقارنة بطموحاته، ألا يقلقكَ العمر ـ الزَّمن، كلّما تتقدَّم في العمر؟.
ج 18ـ قلْ الذي يقلقني كثيراً ويقضّ مضاجعي هو أنَّني لم أطبع في كلّ عام أكثر من ديوان وكتاب بالرغم من أنَّ الحالة المادّية لم تكن هي العائق، متى أرى أكثر من ثلاثين كتاباً وبحثاً وقصة تتجسَّد على الورق؟!!. هذا ما يقلقني لكن علينا أن نعمل على تحقيق ما نرغب فيه.
19 ـ لماذا لا أرى دوراً مهمَّاً للمبدع في قيادة الدَّولة والمجتمع، خاصَّة في دنيا الشَّرق؟!.
ج 19ـ سترى حين يتحول الشرق إلى غرب والغرب إلى شرق، وحين تتحقق المواطنة الكاملة ...متى...كيف؟!! أينَ؟!!! لستُ أدري، الذي أدريه هو أنه يلزم الشرق مئات السنوات حتى يصبح قابلاً لتحقيق حلمك يا صديقي.
20 ـ نعيش مرّة واحدة، لماذا لا يقدِّم الإنسان مبدعاً كان أم عاديّاً أبهى ما لديه في الحياة؟.
ج 20 ـ كلُّ واحدٍ منّا يقتنع بما يقدمه ويحسبه بأنه الأفضل، لولا الاختلاف لما ميَّزنا ما بين الفضيلة والرَّذيلة بين الجميل والقبيح، وأرى في الاختلاف ديمومة، جميعنا يرى بأنّه الأفضل ولكن هناك نسباً تقوم عليها الحياة.
21 ـ تعتبر الفلسفة أمُّ العلوم، هل نستطيع أن نعتبر الشِّعر بمثابة ابنها البكر كحالة خلاقة؟.
ج 21 ـ بعيداً عن الإجابة الكلاسيكية وما كتبه أرسطو عن ما يتضمَّنه سؤالكم، أجل الفلسفة كانت أم العلوم سابقاً ولكنَّها اليوم أحد بوَّابات الوصول إلى الحكمة ومعرفة أسرارها ولكنني أرى في الشّعر فسحة وقيمة لا تقل عن قيمة  الفلسفة  وأجمل القصائد الَّتي تتَّشح بوشاح فلسفي فتراها أجمل وأبقى.
22 ـ ألا ترى أن المجتمع البشري يهمل إلى حدٍّ كبير دور المبدع في تنوير واستنهاض المجتمع؟.
ج 22 ـ ما عدا المدينة الفاضلة المتخيّلة أصلاً، لا نجد مبدعاً قد قاد العالم بشكل مباشر لكن السَّاسة  يستغلون جهود المبدعين عبر مستشاريهم فيستهلكون الفكر الإبداعي وينسبونه لأنفسهم، وأما إهمال دور المبدع، فهناك مجتمعات تستفيد من جهوده وهناك مجتمعات تغيّبه لأنّه الخطر الوحيد الَّذي يقضُّ مضاجع الأغنياء الَّذين جمعوا ثروتهم بالصدفة والطرق غير المشروعة وهم  يقودون مجتمعاتهم إلى الهاوية حين يستبعدون المبدع.
23 ـ هل توافقني الرأي أنَّ الإنسان فشل في تحقيق سعادة أخيه الإنسان، وكأنّنا إزاء حضارة تشيخ، تنزلقُ نحوَ أسفل السَّافلين، متى سيفهم الإنسان أنَّ لا قيمة لأيَّة حضارةٍ تُبنى على جماجم الآخرين؟! 
ج 23 ـ أجل أوافقك الرأي لكن  لن يفهمَ الإنسان حتَّى قيام السَّاعة.
24 ـ الشَّاعر، الأديب، الباحث المعطاء اسحق قومي، إلى أين يقودُك يراعُ الإبداع؟!.
ج 24 ـ يقودني إلى حيث تتجلَّى القداسة والحبّ والرَّوعة والدَّهشة والإبهارُ والخلود.   

نقلاً عن جريدة الزّمان اللَّندنيّة

CONVERSATION

0 comments: